أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٢٢
بشر فلا يلبث أن ينبهه الله عليه. وأنكر بعض العلماء ذلك، وذهب إلى أن المعنى أن الشيطان كان يلقي وساوسه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم ما يشغله عن بعض ما يقول، فيقرأ غلطا في القصص المتشابهة نحو قصة موسى عليه السلام وفرعون في مواضع من القرآن مختلفة الألفاظ، فكان المنافقون والمشركون ربما قالوا قد رجع عن بعض ما قرأ وكان ذلك يكون منه على طريق السهو فنبهه الله تعالى عليه. فأما الغلط في قراءة " تلك الغرانيق " فإنه غير جائز وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يجوز وقوع الغلط على بعض القرآن بإنشاد شعر في أضعاف التلاوة على أنه من القرآن. وروي عن الحسن أنه لما تلا ما فيه ذكر الأصنام قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما هي عندكم كالغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى في قولكم " على جهة النكير عليهم.
قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر)، قيل: إن المنسك الموضع المعتاد لعمل خير أو شر وهو المألف لذلك، ومناسك الحج مواضع العبادات فيه، فهي متعبدات الحج. وقال ابن عباس: " منسكا عيدا ". وقال مجاهد وقتادة: " متعبدا في إراقة الدم بمنى وغيره ". وقال عطاء ومجاهد أيضا وعكرمة: " ذبائح هم ذابحوه ". وقيل إن المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها. قال أبو بكر: قال النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الأضحى فقال -: " إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح "، فجعل الصلاة والذبح جميعا نسكا، وهذا يدل على أن اسم النسك يقع على جميع العبادات، إلا أن الأظهر الأغلب في العادة عند الإطلاق الذبح على وجه القربة، قال الله تعالى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) [البقرة: 196]، وليس يمتنع أن يكون المراد جميع العبادات ويكون الذبح أحد ما أريد بالآية، فيوجب ذلك أن يكونوا مأمورين بالذبح لقوله تعالى: (فلا ينازعنك في الأمر)، وإذ كنا مأمورين بالذبح ساغ الاحتجاج به في إيجاب الأضحية لوقوعها عامة في الموسرين كالزكاة، ولو جعلناه على الذبح الواجب في الحج كان خاصا في دم القران والمتعة إذ كانا نسكين في الحج دون غيرهما من الدماء إذ كانت سائر الدماء في الحج إنما يجب على جهة جبران نقص وجناية فلا يكون إيجابه على وجه ابتداء العبادة به، وقوله تعالى: (جعلنا منسكا هم ناسكوه) يقتضي ظاهره ابتداء إيجاب العبادة به.
مطلب: في الأضحية واختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب الأضحية، فروى الشعبي عن أبي سريحة قال: " رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان ". وقال عكرمة: " كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ويقول: من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس ".
(٣٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 317 318 319 320 321 322 323 324 325 326 327 ... » »»