أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٢١
عنهم. وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكنوا في الأرض قاموا بفروض الله عليهم، وقد مكنوا في الأرض فوجب أن يكونوا أئمة القائمين بأوامر الله منتهين عن زواجره ونواهيه، ولا يدخل معاوية في هؤلاء لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، وليس معاوية من المهاجرين بل هو من الطلقاء.
قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الآية.
مطلب: في [تلك الغرانيق العلى] إلى آخره روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس:
أن السبب في نزول هذه الآية إنه لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) [النجم: 19 و 20] ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجي ". وقد اختلف في معنى ألقى الشيطان، فقال قائلون: لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة وذكر فيها الأصنام علم الكفار أنه يذكرها بالذم والعيب، فقال قائل منهم حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) [النجم: 19]: " تلك الغرانيق العلى " وذلك بحضرة الجمع الكثير من قريش في المسجد الحرام، فقال سائر الكفار الذين كانوا بالبعد منه: إن محمدا قد مدح آلهتنا، وظنوا أن ذلك كان في تلاوته، فأبطل الله ذلك من قولهم وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتله وإنما تلاه بعض المشركين، وسمى الذي ألقى ذلك في حال تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم شيطانا لأنه كان من شياطين الإنس كما قال تعالى: (شياطين الإنس والجن) [الأنعام: 112]، والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن والإنس. وقيل: إنه جائز أن يكون شيطانا من شياطين الجن، وقال ذلك عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك جائز في أزمان الأنبياء عليهم السلام كما حكى الله تعالى عنه بقوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) [الأنفال: 48]، وقال: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى مالا ترون) [البقرة: 196]. وإنما قال ذلك إبليس حين تصور في صورة سراقة بن مالك لقريش وهم يريدون الخروج إلى بدر، وكما تصور في صورة الشيخ النجدي حين تشاورت قريش في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مثل ذلك جائزا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لضرب من التدبير، فجائز أن يكون الذي قال ذلك شيطانا فظن القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
وقال بعضهم: جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم بذلك على سبيل السهو الذي لا يعرى منه
(٣٢١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 316 317 318 319 320 321 322 323 324 325 326 ... » »»