الهدي فمنعه ذلك من الإحلال ومضى على حجته. قيل له: لا يجوز أن يكون المراد به طواف القدوم من وجوه، أحدها: أنه مأمور به عقيب الذبح، وذبح الهدي إنما يكون يوم النحر لأنه قال: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق)، وحقيقة " ثم " للترتيب والتراخي، وطواف القدوم مفعول قبل يوم النحر، فثبت أنه لم يرد به طواف القدوم. والوجه الثاني: أن قوله: (وليطوفوا بالبيت العتيق) هو أمر والأمر على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب، وطواف القدوم غير واجب، وفي صرف المعنى إليه صرف للكلام عن حقيقته. والثالث: أنه لو كان المراد الطواف الذي أمر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدموا مكة لكان منسوخا، لأن ذلك الطواف إنما أمروا به لفسخ الحج وذلك منسوخ بقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) [البقرة: 196]، وبما روى ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال: قلت:
يا رسول الله أرأيت فسخ حجتنا لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: " بل لكم خاصة ". وروي عن عمر وعثمان وأبي ذر وغيرهم مثل ذلك. وقال ابن عباس: " لا يطوف الحاج للقدوم وإنه إن طاف قبل عرفة صارت حجته عمرة " وكان يحتج بقوله: (ثم محلها إلى البيت العتيق)، فذهب إلى أنه يحل بالطواف فعله قبل عرفة أو بعده، فكان ابن عباس يذهب إلى أن هذا الحكم باق لم ينسخ وأن فسخ الحج قبل تمامه جائز بأن يطوف قبل الوقوف بعرفة فيصير حجه عمرة. وقد ثبت بظاهر قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) نسخه، وهذا معنى ما أراده عمر بن الخطاب بقوله: " متعتان كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج "، وذهب فيه إلى ظاهر هذه الآية وإلى ما علمه من توقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم على أن فسخ الحج كان لهم خاصة، وإذا ثبت أن ذلك منسوخ لم يجز تأويل قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) عليه، فثبت بما وصفنا أن المراد طواف الزيارة.
وفيه الدلالة على وجوب تقديمه قبل مضي أيام النحر، إذ كان الأمر على الفور حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير، ولا خلاف في إباحة تأخيره إلى آخر أيام النحر، وقد روى سفيان الثوري وغيره عن أفلح بن حميد عن أبيه: " أنه حج مع ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو أيوب، فلما كان يوم النحر لم يزر أحد منهم البيت إلى يوم النفر إلا رجالا كانت معهم نساء فتعجلوا "، وإنما أراد بذلك عندنا النفر الأول، وهو اليوم الثالث من يوم النحر، فلو خلينا وظاهر الآية لما جاز تأخير الطواف عن يوم النحر، إلا أنه لما اتفق السلف وفقهاء الأمصار على إباحة تأخيره إلى اليوم الثالث من أيام النحر