أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣١٣
أخرناه ولم يجز تأخيره إلى آخر أيام التشريق، ولذلك قال أبو حنيفة: " من أخره إلى أيام التشريق فعليه دم "، وقال أبو يوسف ومحمد: " لا شيء عليه ".
فإن قيل: لما كانت " ثم " تقتضي التراخي وجب جواز تأخيره إلى أي وقت شاء الطائف. قيل له: لا خلاف أنه ليس بواجب عليه التأخير، وظاهر اللفظ يقتضي إيجاب تأخيره إذا حمل على حقيقته، فلما لم يكن التأخير واجبا وكان فعله واجبا لا محالة اقتضى ذلك لزوم فعله يوم النحر من غير تأخير وهو الوقت الذي أمر فيه بقضاء التفث، فاستدلالك بظاهر اللفظ على جواز تأخيره أبدا غير صحيح مع كون " ثم " في هذا الموضع غير مراد بها حقيقة معناها من وجوب فعله على التراخي، ولهذا قال أبو حنيفة فيمن أخر الحلق إلى آخر أيام التشريق إن عليه دما، لأن قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم) قد اقتضى فعل الحلق على الفور في يوم النحر، وأباح تأخيره إلى آخر أيام النحر بالاتفاق ولم يبحه أكثر من ذلك. ومما يحتج به لأبي حنيفة في ذلك أن الله تعالى قد أباح النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق - وهو الثالث من النحر - بقوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) [البقرة: 203]، ويمتنع إباحة النفر قبل تقديم طواف الزيارة، فثبت أنه مأمور به قبل النفر الأول وهو اليوم الثالث من النحر، فإذا تضمن ذلك فقد تم الطواف، فهو لا محالة منهي عن تأخيره، فإذا أخره لزمه جبرانه بدم.
وقوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) لما كان لفظا ظاهر المعنى بين المراد اقتضى جواز الطواف على أي وجه أوقعه من حدث أو جنابة أو عريان أو منكوسا أو زحفا، إذ ليس فيه دلالة على كون الطهارة وما ذكرنا شرطا فيه، ولو شرطنا فيه الطهارة وما ذكرنا كنا زائدين في النص ما ليس فيه، والزيادة في النص غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ، فقد دلت الآية على وقوع الطواف موقع الجواز وإن فعله على هذه الوجوه المنهي عنها. وقوله: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) يقتضي جواز أي ذلك فعله من غير ترتيب، إذ ليس في اللفظ دلالة على الترتيب، فإن فعل الطواف قبل قضاء التفث أو قضى التفث ثم طاف فإن مقتضى الآية أن يجزي جميع ذلك، إذ " الواو " لا توجب الترتيب.
ولم يختلف الفقهاء في إباحة الحلق واللبس قبل طواف الزيارة، ولم يختلفوا أيضا في حظر الجماع قبله، واختلفوا في الطيب والصيد، فقال قائلون: " هما مباحان قبل الطواف " وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء، وهو قول عائشة في آخرين من السلف. وقال عمر بن الخطاب وابن عمر: " لا تحل له النساء والطيب والصيد حتى يطوف للزيارة ".
وقال قوم: " لا تحل له النساء والطيب والصيد حتى يطوف ". وروى سفيان بن عيينة عن
(٣١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 308 309 310 311 312 313 314 315 316 317 318 ... » »»