بها، فلم يكن يمتنع الإحلال فيما بينها وبين إحرام الحج إلا أن يسوق الهدي فيمنعه ذلك من الإحلال، وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم في قرانه وكان المانع له من الإحلال سوق الهدي دون إحرام الحج، وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم كان هدي القران لا التطوع إذ لا تأثير لهدي التطوع في المنع من الإحلال بحال. ويدل على أنه كان قارنا قوله صلى الله عليه وسلم: " أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة وعمرة "، ويمتنع أن يخالف ما أمره به ربه. ورواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج لا يعارض رواية من روى القران، وذلك لأن راوي القران قد علم زيادة إحرام لم يعلمه الآخر فهو أولى، وجائز أن يكون راوي الإفراد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لبيك اللهم لبيك " ولم يسمعه يذكر العمرة، أو سمعه ذكر الحج دون العمرة وظن أنه مفرد، إذ جائز للقارن أن يقول لبيك بحجة دون العمرة وجائز أن يقول لبيك بعمرة وجائز أن يلبي بهما معا، فلما كان ذلك سائغا وسمعه بعضهم يلبي بالحج وبعضهم سمعه يلبي بحج وعمرة كانت رواية من روى الزيادة أولى. وأيضا فإنه يحتمل أن يريد بقوله أفرد الحج أفعال الحج، وأفاد أنه أفرد أفعال الحج وأفرد أفعال العمرة ولم يقتصر للإحرامين على فعل الحج دون العمرة، وأبطل بذلك قول من يجيز لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا.
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين الأكل من هدي القران والمتعة. وروى عطاء عن ابن عباس قال: " من كل الهدي يؤكل إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر ".
وروى عبيد الله بن عمر قال: " لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل مما سوى ذلك ".
وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا: " لا يؤكل من الهدي كله إلا الجزاء ". فهؤلاء الصحابة والتابعون قد أجازوا الأكل من دم القران والتمتع، ولا نعلم أحدا من السلف حظره.
قوله تعالى: (وأطعموا البائس الفقير). روى طلحة بن عمرو عن عطاء:
(وأطعموا البائس الفقير) قال: " من سألك ". وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال:
" البائس الذي يسأل بيده إذا سأل ". وإنما سمي من كانت هذه حاله بائسا لظهور أثر البؤس عليه بأن يمد يده للمسألة، وهذا على جهة المبالغة في الوصف له بالفقر، وهو في معنى المسكين لأن المسكين من هو في نهاية الحاجة والفقر، وهو الذي قد ظهر عليه السكون للحاجة وسوء الحال، وهو الذي لا يجد شيئا، وقيل: هو الذي يسأل. وهذه الآية قد انتظمت سائر الهدايا والأضاحي وهي مقتضية لإباحة الأكل منها والندب إلى الصدقة ببعضها. وقدر أصحابنا فيه الصدقة بالثلث، وذلك لقوله تعالى: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)، قال النبي صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي: " فكلوا وادخروا " فجعلوا