أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٢٩
لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولايات ونفاذ الأمر والنهي، إذ كان الله إنما جعل لهم الذمة وحقن دماءهم بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين، فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغصوب وأخذ الضرائب والظلم سواء كان السلطان ولاه ذلك أو فعله بغير أمر السلطان، وهذا يدل على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان وظهر منهم ظلم واستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة وإن كان آخذو الضرائب ممن ينتحل الاسلام، والقعود على المراصد لأخذ أموال الناس يوجب إباحة دمائهم إذ كانوا بمنزلة قطاع الطريق ومن قصد إنسانا لأخذ ماله، فلا خلاف بين الفقهاء أن له قتله. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من طلب ماله فقاتل فقتل فهو شهيد " وفي خبر آخر: " من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد "، فإذا كان هذا حكم من طلب أخذ مال غيره غصبا وهو ممن ينتحل الاسلام فالذمي إذا فعل ذلك استحق القتل من وجهين، أحدهما: ما اقتضاه ظاهر الآية من وجوب قتله، والآخر: قصده المسلم بأخذ ماله ظلما.
باب وقت وجوب الجزية قال الله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) إلى قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، فأوجب قتالهم وجعل إعطاء الجزية غاية لرفعه عنهم، لأن " حتى " غاية. هذا حقيقة اللفظ والمفهوم من ظاهره، ألا ترى أن قوله: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) [البقرة: 222] قد حظر إباحة قربهن إلا بعد وجود طهرهن؟ وكذلك المفهوم من قول القائل: " لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار " منع الإعطاء إلا بعد دخوله، فثبت بذلك أن الآية موجبة لقتال أهل الكتاب مزيلة ذلك عنهم بإعطاء الجزية، وهذا يدل على أن الجزية قد وجبت بعقد الذمة، وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف قال: " لا تؤخذ من الذمي الجزية حتى تدخل السنة ويمضي شهران منها بعض ما عليه بشهرين، ونحو ذلك يعامل في الجزية، بمنزلة الضريبة كلما كان يمضي شهران أو نحو ذلك أخذت منه ". قال أبو بكر: يعني بالضريبة الأجرة في الإجارات، قال أبو يوسف: " ولا يؤخذ ذلك منه حين تدخل السنة ولا يؤخذ ذلك منه حتى تتم السنة، ولكن يعامل ذلك في سنته ". قال أبو بكر: ذكره للشهرين إنما هو توفية وهي واجبة بإقرارنا إياه على الذمة، لما تضمنه ظاهر الآية. وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال في الذمي: " يؤخذ منه خراج رأسه في سنته ما دام فيها، فإذا انقضت السنة لم يؤخذ منه ". وهذا يدل من قول أبي حنيفة على أنه رآها واجبة بعقد الذمة لهم وأن تأخيرها بعض السنة إنما هو توفية للواجب وتوسعة، ألا ترى أنه قال:
(١٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 124 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 ... » »»