أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢٨١
وولدها، فقال: " عاقلة المقتولة ميراثها لنا " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، ميراثها لزوجها وولدها "، قال: وكانت حبلى، فألقت جنينا، فخاف عاقلة القاتلة أن يضمنهم، فقالوا:
يا رسول الله لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا سجع الجاهلية " فقضى في الجنين غرة عبدا أو أمة. وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين عبدا أو أمة، فقال الذي قضي عليه العقل:
أنؤدي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل! فمثل ذلك، بطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا لقول الشاعر، فيه غرة عبد أو أمة ". وروى عبد الواحد بن زياد عن مجالد عن الشعبي عن جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرة على عاقلة القاتل ". وروى الأعمش عن إبراهيم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل العقل على العصبة ". وعن إبراهيم قال: " اختصم علي والزبير في ولاء موالي صفية إلى عمر، فقضى بالميراث للزبير والعقل على علي رضي الله عنه ". وروي عن علي وعمر في قوم أجلوا عن قتيل أن الدية على بيت المال، وعن عمر في قتيل وجد بين وداعة وحي آخر أنه قضى بالدية على العاقلة، فقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق السلف وفقهاء الأمصار عليه.
فإن قيل: قال الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 164]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه "، وقال لأبي رمثة وابنه: " إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه "، والعقول أيضا تمنع أخذ الانسان بذنب غيره. قيل له: أما قوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 164] فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة، لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الانسان بذنب غيره، وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني، إنما الدية عندنا على القاتل وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته، وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقا للفقراء من غير إلزامهم ذنبا لم يذنبوه بل على وجه المواساة، وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك، وأمر ببر الوالدين، وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وصلاح ذات البين، فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم وبه، وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم ويجعل ذلك في أعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان ومؤجلة ثلاث سنين، فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق. وقد كان تحمل الديات مشهورا في العرب قبل الاسلام، وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت لأتمم
(٢٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 276 277 278 279 280 281 282 283 284 285 286 ... » »»