أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢٨٠
قتل خطأ عند القاتل، ألا يرى أنه إذا قال " لا تقتله عمدا " اقتضى النهي قتلا بهذه الصفة عند القاتل، وإذا قال " لا تقتله بالسيف " فإنما حظر عليه قتلا بهذه الصفة؟ فكذلك قوله:
(إلا خطأ) إذا كان قد اقتضى إباحة قتل الخطأ فواجب أن يكون شرط الإباحة أن يكون عنده أنه خطأ، وذلك محال لا يجوز وقوعه، لأن الخطأ هو الذي لا يعلم القاتل أنه مخطئ فيه، والحال التي لا يعلمها لا يجوز أن يتعلق بها حظر ولا إباحة.
وقال أصحابنا: القتل على أنحاء أربعة: عمد، وخطأ، وشبه عمد، وما ليس بعمد ولا خطأ ولا شبه عمد. فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح مع العلم بحال المقصود به.
والخطأ على ضربين، أحدهما: أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب مسلما، والثاني:
أن يظنه مشركا لأنه في حيز أهل الشرك أو عليه لباسهم، فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد. وشبه العمد ما تعمد ضربه بغير سلاح من حجر أو عصا، وقد اختلف الفقهاء في ذلك وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما ما ليس بعمد ولا شبه عمد ولا خطأ، فهو قتل الساهي والنائم، لأن العمد ما قصد إليه بعينه، والخطأ أيضا الفعل فيه مقصود إلا أنه يقع الخطأ تارة في الفعل وتارة في القصد، وقتل الساهي غير مقصود أصلا فليس هو في حيز الخطأ ولا العمد، إلا أن حكمه حكم الخطأ في الدية والكفارة.
قال أبو بكر: وقد ألحق بحكم القتل ما ليس بقتل في الحقيقة لا عمدا ولا غير عمد، وذلك نحو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به انسان، هذا ليس بقاتل في الحقيقة، إذ ليس له فعل في قتله، لأن الفعل منا إما أن يكون مباشرة أو متولدا، وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل في العاثر بالحجر والواقع في البئر لا مباشرة ولا تولدا، فلم يكن قاتلا في الحقيقة، ولذلك قال أصحابنا: إنه لا كفارة عليه.
وكان القياس أن لا تجب عليه الدية، ولكن الفقهاء متفقون على وجوب الدية فيه، قال الله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) ولم يذكر في الآية من عليه الدية من القاتل أو العاقلة.
وقد وردت آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة، واتفق الفقهاء عليه، منها ما روى الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: " كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفكوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين ". وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه كتب على كل بطن عقوله، ثم كتب أنه لا يحل أن يتولى مولى رجل بغير إذنه ". وروى مجالد عن الشعبي عن جابر: أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل غير واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وترك زوجها
(٢٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 285 ... » »»