أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢١٦
بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل، وذلك لان قوله تعالى: (أموالكم) يقع على مال الغير ومال نفسه، كقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه، فكذلك قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) نهي لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل. وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصي الله، وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان، أحدهما: ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، وقال ابن عباس والحسن: أن يأكله بغير عوض، فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور:
(ليس على الأعمى حرج) [الفتح: 17] إلى قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) [النور: 61] الآية. قال أبو بكر: يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك، لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية، وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه، فهذا لعمري قد تناولته الآية. وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: " هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة ". وروى الربيع عن الحسن قال: " ما نسخها شئ من القرآن ".
ونظير ما اقتضته الآية من النهي عن أكل مال الغير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) [البقرة: 188]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه ". وعلى أن النهي عن أكل مال الغير معقود بصفة، وهو أن يأكله بالباطل، وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة، وكمن اشترى شيئا من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز، فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل، وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر ما لا منفعة فيه، فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل، وكذلك أجرة النائحة والمغنية، وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير.
وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهي عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه، وكذلك قال أصحابنا إنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به، لأنه ربح حصل له من وجه محظور، وقوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة.
فإن قيل: هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من
(٢١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 211 212 213 214 215 216 217 218 219 220 221 ... » »»