أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢٢٢
فإن قيل: الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين: إما أن يكون الشهود حاضرين العقد ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئذ شهادتهم على صحة البيع ولزوم الثمن، وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقران عند الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهنا فيصح. قيل له: أول ما في ذلك أن الوجهين جميعا خلاف الآية وفيهما إبطال ما تضمنته من الاحتياط بالإشهاد والرهن، وذلك لأن الله تعالى قال: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) [البقرة: 282] إلى قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين) [البقرة: 282]، فأمر بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخ احتياطا لهما، وزعمت أنت أنه يشهد بعد الافتراق، وجائز أن تهلك السلعة قبل الافتراق فيبطل الدين، أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهدا، وجائز أن يموت فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد، وقال الله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم) [البقرة: 282] فندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه، ولم يقل: " إذا تبايعتم وتفرقتم " وموجب الخيار مثبت في الآية من التفرق ما ليس فيها، وغير جائز أن يزاد في حكم الآية ما ليس فيها. وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد، وعسى أن يموت المشتري قبل الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطا لمعنى الاحتياط وتحصين المال بالإشهاد، وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول بتاتا لا خيار فيه لواحد منهما.
فإن قيل: فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحا مع شرط الخيار، ولم يكن ما تلوت من آية الدين وكتب الكتاب والإشهاد والرهن مانعا وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه، فكذلك إثبات خيار المجلس لا ينفي صحة الشهادة والرهن. قيل له: الآية بما فيها من الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعا باتا، وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار، فليس فيما أجزنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية بما انتظمته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في البياعات التي لم يشرط فيها خيار، والبيع المعقود على شرط الخيار خارج عن حكم الآية غير مراد بها لما وصفنا حتى يسقط الخيار ويتم البيع، فحينئذ يكونان مندوبين إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع، ولو أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم يبق للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها. وأيضا فإن إثبات الخيار إنما يكون مع عدم الرضى بالبيع ليرتئي في إبرام البيع أو فسخه، فإذا تعاقدا عقد البيع من غير شرط
(٢٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 217 218 219 220 221 222 223 224 225 226 227 ... » »»