قال الخطيب: وكان أصحاب الحديث يأتونه في مكانه حين اختفائه بالبصرة في بيت يحيى بن سعيد القطان. فإذا سمع بصاحب حديث، بعث إليه، وكان يقول: " أنت (يعنى يحيى) تريد مثل أبي وائل عن عبد الله. أين تجد كل وقت هذا؟ اذهب إلى الكوفة. فجئني بكتبي، أحدثك ". قال له يحيى: " أنا أختلف إليك وأخاف على دمي. فكيف أذهب، فآتي بكتبك "؟ قال: " وكان يحيى جبانا جدا " (1).
وقال ابن الأسود الحارثي " خاف سفيان شيئا، فطرح كتبه، فلما أمن، أرسل إلي وإلى يزيد بن توبة المرهبي. فقال: " أخرجوا الكتب ". فدخلنا البئر، فجعلنا نخرجها فأقول: " يا أبا عبد الله، وفي الركاز الخمس "، وهو يضحك.
فأخرجنا تسع قمطرات. كل واحد إلى هنا. وأشار إلى أسفل ثدييه. قال، فقلت له: " اعزل لي كتابا تحدثني به ". فعزل لي كتابا، فحدثني به " (2).
وإذ قضى الثوري أكثر عمره في الكوفة، وكانت هي مركز جولاته إلى سنة 155 ه، فنحن على اليقين في أنه صنف أكثر الكتب أو كلها في الكوفة. ثم لما خرج منها في السنة المذكورة خوفا على نفسه من الخليفة، تركها في بيته ونظن أن واحدا من تلاميذه جاء بها إليه حين كان هو مستترا بالبصرة ليرويها عنه. ثم طرحها الثوري حين خاف شيئا. ثم أخرجها لما أمن، وحدث بها. وأيضا نجزم بأن ما أخرج من البئر من الكتب كان تسع قمطرات. كل واحدة إلى أسفل من ثديي الرجل. والظاهر أن الكتب التي نسبها المؤرخون إلى الثوري لا يمكن ان تبلغ إلى تسع قمطرات. فهل لعب بها الحدثان مثل مؤلفات معاصريه، أم في الرواية شئ من المبالغة؟ فلولا ان عندنا قول ابن قتيبة، الذي اختاره ابن النديم أيضا، لحملنا الرواية على المبالغة. قال ابن قتيبة: " وأوصى إلى عمار بن سيف في كتبه، فمحاها، وأحرقها " (3). فيتضح منه ان الكتب المذكورة في التاريخ والتذكرة هي البقية التي كانت قد رويت وانتشرت في البلاد ولذا لم تصل إليها يد النار،