والمعنى: لولا أن أدركته ولحقت به نعمة من ربه وهو أن الله قبل توبته لطرح بالأرض العراء وهو مذموم بما فعل.
لا يقال: إن الآية تنافي قوله تعالى: " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " الصافات: 144، فإن مدلوله أن مقتضى عمله أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة ومقتضى هذه الآية أن مقتضاه أن يطرح في الأرض العراء مذموما وهما تبعتان متنافيتان لا تجتمعان.
فإن يقال: الآيتان تحكيان عن مقتضيين مختلفين لكل منهما أثر على حدة فآية الصافات تذكر أنه عليه السلام كان مداوما للتسبيح مستمرا عليه طول حياته قبل ابتلائه - وهو قوله: كان من المسبحين - ولولا ذلك للبث في بطنه إلى يوم القيامة، والآية التي نحن فيها تدل على أن النعمة وهو قبول توبته في بطن الحوت شملته فلم ينبذ بالعراء مذموما.
فمجموع الآيتين يدل على أن ذهابه مغاضبا كان يقتضي أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة فمنع عنه دوام تسبيحه قبل التقامه وبعده، وقدر أن ينبذ بالعراء وكان مقتضى عمله أن ينبذ مذموما فمنع من ذلك تدارك نعمة ربه له فنبذ غير مذموم بل اجتباه الله وجعله من الصالحين فلا منافاة بين الآيتين.
وقد تكرر في مباحثنا السابقة أن حقيقة النعمة الولاية وعلى ذلك يتعين لقوله: " لولا أن تداركه نعمة من ربه " معنى آخر.
قوله تعالى: " فاجتباه ربه فجعله من الصالحين " تقدم توضيح معنى الاجتباء والصلاح في مباحثنا المتقدمة.
قوله تعالى: " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر " إن مخففة من الثقيلة، والزلق هو الزلل، والازلاق الازلال وهو الصرع كناية عن القتل والاهلاك.
والمعنى: أنه قارب الذين كفروا أن يصرعوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر.
والمراد بإزلاقه بالابصار وصرعه بها - على ما عليه عامة المفسرين - الإصابة بالأعين، وهو نوع من التأثير النفساني لا دليل على نفيه عقلا وربما شوهد من الموارد ما يقبل الانطباق عليه، وقد وردت في الروايات فلا موجب لانكاره.
وقيل: المعنى أنهم ينظرون إليك إذا سمعوا منك الذكر الذي هو القرآن نظرا مليئا بالعداوة والبغضاء يكادون يقتلونك بحديد نظرهم.