ثم آل الامر إلى أن يحوز الذهب المقام أول والفضة تتلوه، ويتلوها غيرهما، وسكت الجميع بالسكك الملوكية أو الدولية فصارت دينارا ودرهما وفلسا وغير ذلك بما يطول شرحه على خروجه من غرض البحث.
فلم يلبث النقدان حتى عادا أصلا في القيمة بهما يقوم كل شئ، وإليهما يقاس ما عند الانسان من مال أو عمل، وفيهما يرتكز ارتفاع كل حاجة حيوية، وهما ملاك الثروة والوجد كالمتعلق بهما روح المجتمع في حياته يختل أمره باختلال أمرهما، إذا جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما، وإذا وقفا وقفت.
وقد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحولة إليهما في المجتمعات الانسانية من حفظ قيم الأمتعة والأعمال، وتشخيص نسب بعضها إلى بعض، الأوراق الرسمية الدائرة اليوم فيما بين الناس كالبوند والدولار وغيرهما والصكوك البنجية المنتشرة فإنها تمثل قيم الأشياء من غير أن تتضمن عينية لها قيمة في نفسها فهى قيم خالصة مجردة تقريبا.
فالتأمل في مكانة الذهب والفضة الاجتماعية بما هما نقدان حافظان للقيم ومقياسان يقاس إليهما الأمتعة والأموال بما لها من النسب الدائرة بينها تنور أنهما ممثلان لنسب الأشياء بعضها إلى بعض، وإذ كانت بحسب الاعتبار ممثلات للنسب - وإن شئت فقل:
نفس النسب - تبطل النسب ببطلان اعتبارها، وتحبس بحبسها ومنع جريانها، وتقف بوقوفها.
وقد شاهدنا في الحربين العالميين الأخيرين ماذا أوجده بطلان اعتبار نقود بعض الدول؟ كالمنات في الدولة التزارية والمارك في الجرمن من البلوى وسقوط الثروة واختلال أمر الناس في حياتهم، والحال في كنزهما ومنع جريانهما بين الناس هذا الحال.
وإلى ذلك يشير قول أبى جعفر عليه السلام في رواية الأمالي المتقدمة: (جعلها الله مصلحة لخلقه وبها يستقيم شئونهم ومطالبهم).
ومن هنا يظهر أن كنزهما إبطال لقيم الأشياء وإماتة لما في وسع المكنوز منهما من إحياء المعاملات الدائرة وقيام السوق في المجتمع على ساقه، وببطلان المعاملات وتعطل الأسواق تبطل حياة المجتمع، وبنسبة ما لها من الركود والوقوف تقف وتضعف.
لست أريد خزنهما في مخازن تختص بهما فإن حفظ نفاس الأموال وكرائم الأمتعة