الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٣٨٧
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم. ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون.
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين. ما تنزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا منظرين.
____________________
يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما في العاقبة، وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه، وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل وهذه هجيري أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم: التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين (ولها كتاب) جملة واقعة صفة لقرية والقياس لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى - وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون - وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. كتاب (معلوم) مكتوب معلوم، وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين، ألا ترى إلى قوله (ما تسبق من أمة أجلها) في موضع كتابها وأنث الأمة أولا ثم ذكرها آخرا حملا على اللفظ والمعنى، وقال (وما يستأخرون) بحذف عنه لأنه معلوم. قرأ الأعمش يا أيها الذي ألقي عليه الذكر، وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء كما قال فرعون - إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون - وكيف يقرون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع، وقد جاء في كتاب الله في مواضع منها - فبشرهم بعذاب أليم - إنك لأنت الحليم الرشيد - وقد يوجد كثير في كلام العجم. والمعنى: إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أن الله نزل عليك الذكر. لو ركبت مع لا وما لمعنيين: معنى امتناع الشئ لوجود غيره ومعنى التحضيض وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض، قال ابن مقبل:
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما * ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك، كقوله تعالى - لولا أنزل إليك ملك فيكون معه نذيرا - أو هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقا، كما كانت تأتي الأمم المكذبة برسلها. قرئ تنزل بمعنى تتنزل. وتنزل على البناء للمفعول من نزل وننزل الملائكة بالنون ونصب الملائكة (إلا بالحق) إلا تنزلا متلبسا بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار، ومثله قوله تعالى - وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق -. وقيل الحق: الوحي أو العذاب، و (إذا) جواب وجزاء لأنه جواب لهم، وجزاء لشرط مقدر تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم (إنا نحن نزلنا الذكر) رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم - يا أيها الذي نزل عليه الذكر - ولذلك قال إنا نحن، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين، وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا، فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه. فإن قلت: فحين كان قوله - إنا نحن نزلنا الذكر - رد لإنكارهم واستهزائهم فكيف اتصل بقوله
(٣٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 382 383 384 385 386 387 388 389 390 391 392 ... » »»