الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٣
أليس الله بأعلم بالشاكرين. وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، إنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم. وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين.
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. قل إني على بينة من ربي وكذبتم به،
____________________
مخذول مفتون (أليس الله بأعلم بالشاكرين) أي الله أعلم بمن يقع منه الايمان والشكر فيوفقه للإيمان، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق (فقل سلام عليكم) إما أن يكون أمرا بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمرا بأن يبدأهم بالسلام إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم، وكذلك قوله (كتب ربكم على نفسه الرحمة) من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم. وقرئ أنه فإنه بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل (إنه من عمل منكم) وبالفتح على الابدال من الرحمة (بجهالة) في موضع الحال أي عمله وهو جاهل، وفيه معنيان: أحدهما أنه فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه والجهل لا من أهل الحكمة والتدبير ومنه قول الشاعر:
على أنها قالت عشية زرتها * جهلت على عمد ولم تك جاهلا والثاني أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شئ حتى يعلم حاله وكيفيته. وقيل إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا ولم يعلم أنها مفسدة. وقرئ (ولتستبين) بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث، وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل، يقال استبان الامر وتبين واستبنته وتبينته، والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الاسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل (نهيت) صرفت وزجرت بما ركب في من أدلة العقل وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون (من دون الله) وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة (قل لا أتبع أهواءكم) أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل (قد ضللت إذا) أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من الهدى في شئ: يعني أنكم كذلك، ولما نفى أن يكون الهوى متبعا نبه على ما يجب اتباعه بقوله (قل إني على بينة من ربي) ومعنى قوله - إني على بينة من ربي وكذبتم به - أني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة وشاهد صدق (وكذبتم به) أنتم حيث أشركتم به غيره، يقال أنا على بينة من هذا الامر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتا عندك بدليل. ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله وشدة غضبه عليهم
(٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 ... » »»