إلى واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة. فيه ألا ترى انهم يقولون:
أدركته بأذني يريدون سمعته، وأدركته بأنفي يريدون شممته وأدركته بفمي يريدون ذقته. وكذلك إذا قالوا: أدركته ببصري يريدون رأيته. واما قولهم أدركت حرارة الميل ببصري فغير معروف ولا مسموع، ومع هذا ليس بمطلق بل هو مقيد، لان قولهم حرارة الميل تقييد لان الحرارة تدرك بكل محل فيه حياة، ولو قال أدركت الميل ببصري لما استفيد به الا الرؤية. وقولهم إن الادراك هو الإحاطة باطل، لأنه لو كان كذلك لقالوا: أدرك الجراب بالدقيق وأدرك الحب بالماء وأدرك السور بالمدينة لإحاطة جميع ذلك بما فيه، والامر بخلاف ذلك. وقوله " حتى إذا أدركه الغرق " (1) فليس المراد به الإحاطة بل المعنى حتى إذا لحقه الغرق، كما يقولون أدركت فلانا إذا لحقته، ومثله " فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون " (2) أي لملحقون، والذي يدل على أن المدح إذا كان متعلقا بنفي فاثباته لا يكون الا نقصا، قوله " لا تأخذه سنة ولا نوم (3) وقوله " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " (4) لما كان مدحا متعلقا بنفي فلو ثبت في حال لكان نقصا.
فان قيل كيف يتمدح بنفي الرؤية ومع هذا يشاركه فيها ما ليس بممدوح من المعدومات والضمائر.؟
قلنا: إنما كان ذلك مدحا بشرط كونه مدركا للابصار وبذلك يميز من جميع الموجودات لأنه ليس في الموجودات ما يدرك ولا يدرك.
فان قيل: ولم إذا كان يدرك ولا يدرك يجب أن يكون ممدوحا؟
قلنا: قد ثبت ان الآية مدحة بما دللنا عليه، ولابد فيها من وجه مدحة فلا يخلو من أحد وجهين: اما أن يكون وجه المدحة أنه يستحيل رؤيته مع كونه رائيا أو ما قالوه من أنه يقدر على منع الابصار من رؤيته بأن لا يفعل