(وعلم أن ما جئت به هو الحق من عندك فأقلل ماله وولده) لأن من كان مقلا منهما يسهل عليه التوسع في عمل الآخرة والمتوسع في متاع الدنيا لا يمكنه التوسع في عمل الآخرة لما بينهما من التباين والتضاد، ومن ثم قال ابن مسهر: نعمة الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أعظم من نعمته فيما بسط منها والله سبحانه لم يرض الدنيا أهلا لعقوبة أعدائه كما لم يرضها أهلا لإثانة أحبابه وإن كانت معجلة فقد تكون قساوة في القلب أو جمودا في العين أو تعويقا عن طاعة أو وقوعا في ذنب أو فترة في الهمة أو سلب لذة خدمة وذهب ابن عربي إلى أن المراد بإقلال ذلك وبإعدامه أو أخذه في رواية أخرى أخذ ذلك من قلبه مع وجوده عنده وأنه يؤثر حب الله على حب هؤلاء (وحب إليه لقاءك) أي حبب إليه الموت ليلقاك ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (وعجل له القضاء) أي الموت (ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم أن ما جئت به هو الحق من عندك فأكثر ماله وولده وأطل عمره) لتكثر عليه أسباب العقاب والمال والأهل بل والأعضاء حتى العين التي هي أعزها قد تكون سببا لهلاك الإنسان في بعض الأحيان، قال الجنيد: إذا أحب الله عبدا لم يذر له مالا ولا ولدا لأنه إذا كان ذلك له أحبه فتتشعب محبته لربه وتتجزء وتصير مشتركة بين الله وغيره (والله لا يغفر أن يشرك به) [النساء: 48] و [النساء: 116] وهو تعالى قاهر لكل شئ فربما أهلك شريكه وأعدمه ليخلص قلب عبده لمحبته وحده. وقال الحراني خلق الله الدنيا دار بلاء فجعل التقلل منها رحمة وجعل الاستكثار منها نقمة، وقال الغزالي كل ما يزيد على قدر القوت فهو مستقر الشيطان فإن من معه قوته فهو فارغ القلب فلو وجد مائة دينار مثلا على الطريق انبعث من قلبه عشر شهوات تحتاج كل واحدة إلى مائة دينار فلا يكفيه ما وجده بل يحتاج إلى تسعمائة أخرى فقد كان قبل وجود المائة مستغنيا فالآن وجد مائة وظن أنه صار بها غنيا وقد صار محتاجا إلى تسعمائة أخرى يشتري دارا يعمرها وجارية وأثاثا وثيابا فاخرة وكل من ذلك يستدعي أشياء أخر تليق به وكل ذلك لا آخر له فيقع في هاوية آخرها عمق جهنم (تتمة) قال شيخنا العارف بالله الشعراني اعتقادنا أن الأولياء لو كان أهل الدنيا كلهم أولاد أحدهم أو مال أهل الدنيا كله ماله ثم أخذه الله دفعة واحدة ما تغيرت منهم شعرة بل يفرحون أشد الفرح قال: وقد ذقنا ذلك فأحب ما إلى يوم يموت ولدي إظهار الرضا بالقضاء محبة للثواب. وقال النور المرصفي ما أحد من الأولياء إلا ويقدم ما فيه رضا الله على نفسه فأحب ما إليه يوم موت ولده الصالح. بلغنا أن الفضيل بن عياض مكث ثمانين سنة لا يضحك إلا يوم مات ولده فإنه ضحك فقيل له فيه فقال: إن الله أحب أمرا فأحببته، ثم إن ذا لا يعارضه خبر البخاري أنه دعا لأنس بتكثير ماله وولده لأن فضل التقلل من الدنيا والولد يختلف باختلاف الأشخاص كما يشير إليه الخبر القدسي (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى إلخ) فمن الناس من يخاف عليه الفتنة بها وعليه ورد هذا الخبر، ومنهم من لا يخاف عليه كحديث أنس وحديث نعم المال الصالح للرجل الصالح، فكان المصطفى صلى الله عليه وسلم يخاطب كل إنسان بما يصلحه ويليق به، فسقط قول الداودي
(١٦٣)