الزمن، علت همته فتضاغرت جثته، وامتلأ عمره بجلائل الأعمال:
ولست ترى الأجسام وهي ضئيلة * نواحل إلا والنفوس كبار وكيف ينال المجد والجسم وادع * وكيف ينال الحمد والوفر وافر؟!
قال الله - عز وجل -: " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون " (1).
وقال - تبارك وتعالى - " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (2).
فيا خسارة من ضيع أوقات عمره النفيسة في الأعراض الخسيسة.
9 - ويأتي بعض كتاب الحافظ ابن أبي الدنيا " العمر والشيب " في عصر تفشت فيه البطالة، وعم فيه الخلاف والتنازع، وخوت أعمار المسلمين وخلت أعمالهم من كل جليل وهادف - إلا من رحم الله وهم نزر يسير.
ويوم صنف ابن أبي الدنيا كتابه هذا، إنما هدف من ورائه معالجة الواقع الإسلام وقتذاك - القرن الثالث الهجري - فقد كان المجتمع الإسلامي بما أوتي من رخاء واستقرار يزخر بالملهيات والمشغلات من الأقوال والأعمال غير الجادة، لا سيما وهناك عدد كبير من المقبلين الجدد على هذا الدين لم يعيثوا أيام الجهاد والتضحيات، ولم يدركوا أيام الجد والكفاح، فعاشوا في أجواء الخلافات الفقهية، والسياسية، والعقدية، وكانت أجواء مشحونة مترعة هي أقرب إلى النزاع والتفرق، فأضاعت الكثرة أوقاتها بين الملاهي الوافرة، أو في الخصومات الحالقة الماحقة، ولذلك وجدنا كبار المربين من المحدثين قد تحركوا لمعالجة هذه الظاهرة السيئة، وأرادوا أن ينبهوا الجيل المسلم إلى عقدية ورسالته وغاية وجوده، وأنه سوف يحاسب ويسأل في نهاية المطاف. وكان من هؤلاء الأئمة الأعلام ابن المبارك وأحمد وهناك وا بن أبي الدنيا، فقد صنف كل واحد منهم كتابا في الزهد سطر فيه روائع ما تحمله من سير النبلاء في اغتنام العمر، وحسن القيام بحق الله