عمدة القاري - العيني - ج ٢٥ - الصفحة ١٥٢
بيان كلام القائم بذاته، ودليله أنه قال: ه و ى * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير) * ولم يقل: ماذا خلق ربكم؟ وفيه رد للمعتزلة والخوارج والمرجئة والجهمية والنجارية لأنهم قالوا: إنه متكلم يعني خالق الكلام في اللوح المحفوظ مثلا، وفي هذا ثلاثة أقوال: قول أهل الحق أن القرآن غير مخلوق وأنه كلامه تعالى قائم بذاته لا ينقسم ولا يتجزأ أو لا يشبه شيئا من كلام المخلوقين. والقول الثاني، ما ذكرنا عن هؤلاء المذكورين، والقول الثالث: أن الواجب فيه الوقف فلا يقال إنه مخلوق ولا غير مخلوق. وفيه إثبات الشفاعة قوله: * (إذا فزع) * أي: إذا أزيل الخوف والتفعيل للإزالة والسلب وحاصل المعنى: حتى إذا ذهب الفزع * (قالوا ماذا قال ربكم) * فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم فقالوا ماذا قالوا ربكم ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم؟ وأكد ذلك بما حكاه عن الملائكة أيضا قالوا: الحق، والحق إحدى صفتي الذات ولا يجوز على الله غيره لأنه لا يجوز على كلامه الباطل.
قوله: * (من ذا الذي يشفع عنده) * قال ابن بطال: أشار بذلك إلى سبب النزول لأنه جاء أنهم لما قالوا: شفعاؤنا عند الله الأصنام، نزلت، فأعلم الله أن الذين يشفعون عنده من الملائكة والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، إنما يشفعون فيمن يشفعون فيه بعد إذنه لهم في ذلك.
وقال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق.
أي: قال مسروق بن الأجدع الهمداني الوادعي عن عبد الله بن مسعود في تفسير الآية المذكورة: سمع أهل السماوات شيئا، وفي رواية أبي داود وغيره: سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، وفي رواية الثوري: الحديد، بدل السلسلة. وعند ابن أبي حاتم: مثل صوت السلسلة، وعنده في حديث النواس بن سمعان: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا. قوله: عن قلوبهم أي: قلوب الملائكة. قوله: وسكن الصوت أي: الصوت المخلوق لإسماع السماوات إذ الدلائل القاطعة قائمة على تنزهه عن الصوت لأنه مستلزم للحدوث لأنه من الموجودات السيالة الغير القارة. قوله: ونادوا ماذا قال ربكم؟ قيل: ما فائدة السؤال وهم سمعوا ذلك؟ وأجيب: بأنهم سمعوا قولا ولم يفهموا معناه كما ينبغي لأجل فزعهم. ثم هذا التعلق وصله البيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح وهو أبو الضحى عن مسروق، ولفظه: إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، عليه السلام، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم قال: ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول: الحق، قال: فينادون الحق الحق، وقال البيهقي: ورواه أحمد بن شريح الرازي وعلي بن أشكاب وعلي بن مسلم ثلاثتهم عن أبي معاوية مرفوعا. أخرجه أبو داود في السنن عنهم ولفظه مثله إلا أنه قال: فيقولون: ماذا قال ربك؟ قال: ورواه شعبة عن الأعمش موقوفا وجاء عنه مرفوعا أيضا.
ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان هذا تعليق بصيغة التمريض عن جابر بن عبد الله الصحابي الخزرجي الأنصاري المكثر في الحديث، وهو مع كثرة روايته وعلو مرتبته رحل إلى الشام وأخذ يسمعه من عبد الله بن أنيس مصغر أنس بن سعد الجهني العقبي الأنصاري حليفا. وفي التوضيح هذا أسنده الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديثه، قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب رسول الله، فأتبعت بعيرا فشددت عليه رحلي ثم سرت إليه، فسرت شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري فذكره مطولا. قوله: فيناديهم أي: يقول ليدل على الترجمة، كذا قاله الكرماني. قوله: بصوت أي: مخلوق غير قائم به. قال
(١٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 147 148 149 150 151 152 153 154 155 156 157 ... » »»