من إنكار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار. وقال أبو القاسم الأنصاري في (شرح الإرشاد): وقد أنكرهم معظم المعتزلة ودل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم وركاكة ديانتهم، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديما، وينفون وجودهم الآن، ومنهم من يقر بوجودهم ويزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها، ومنهم من قال: إنما لا يرون لأنهم لا ألوان لهم. وقال عبد الجبار المعتزلي: الدليل على إثباتهم السمع دون العقل إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة، لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق.
النوع الثاني في بيان ابتداء خلق الجن: قال أبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشي في (المبتدأ): حدثنا عثمان بن الأعمش عن بكير بن الأخنس عن عبد الرحمن بن سليط القرشي عن ابن عباس عن عمرو بن العاص، قال: خلق الله الجن قبل آدم بألفي سنة، ويقال: عمروا الأرض ألفي سنة، وعن ابن عباس: كان الجن سكان الأرض والملائكة سكان السماء وهم عمارها. وقال إسحاق بن بشر: حدثني جويبر وعثمان بإسنادهما أن الله تعالى خلق الجن وأمرهم بعمارة الأرض، فكانوا يعبدون الله تعالى، فطال بهم الأمد فعصوا الله وسفكوا الدماء، وكان فيهم ملك يقال له: يوسف، فقتلوه فأرسل الله عليهم جندا من الملائكة كانوا في السماء الدنيا كان فيهم إبليس، وكانوا أربعة آلاف، فهبطوا فنفوا بني الجان وأجلوهم عنها وألحقوهم بجزائر البحر، وسكن إبليس والجند الذي كانوا معه الأرض فهان عليهم العمل وأحبوا المكث فيها.
النوع الثالث في بيان خلقهم مماذا؟ قال الله تعالى: * (وخلق الجان من مارج من نار) * (الرحمن: 51). وروى مسلم من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم). فثبت أن أصل الجن النار، كما أن أصل الإنس الطين. وحكى الله تعالى في القرآن عن قوله: * (خلقتني من نار) * (الأعراف: 21، وص 1764;: 67). فهذا أيضا يدل على أن أصل الجن النار. فإن قلت: يجوز أن يكذب في ذلك أو يظنه ولا يكون له علم به. قلت: لو لم يكن الأمر على ما قاله لأنزل الله تعالى تكذيبه، لأن عدم تكذيب الكاذب ممن لا يجوز عليه الخوف والجهل قبيح. فإن قلت: في النار من اليبس ما لا يصح وجود الحياة فيها والحياة في وجودها يحتاج إلى رطوبة. قلت: فالله قادر على أن يفعل رطوبة في تلك النار بمقدار ما يصح وجود الحياة فيها، مع أن أبا هاشم جوز وجود الحياة مع عدم التنفس، ويقول: إن أهل النار لا يتنفسون.
النوع الرابع: في أنهم أجسام وأنهم على صور مختلفة، قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي: الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة، ويجوز أن تكون رقيقة وأن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافا للمعتزلة في قولهم: إنهم أجسام رقيقة ولرقتها لا نراهم قلنا: الرقة ليس بمانعة عن الرؤية في باب الرؤية، ويجوز أن تكون الأجسام الكثيفة موجودة ولا نراها إذا لم يخلق الله فينا الإدراك، وحكى أبو القاسم الأنصاري عن القاضي أبي بكر: نحن نقول إنما رآهم من رآهم لأن الله خلق لهم الرؤية، وأن من لم يخلق له الرؤية لا يراهم وأنهم أجساد مؤلفة وجثث، وقال كثير من المعتزلة: إنهم أجساد رقيقة بسيطة. وقال القاضي عبد الجبار: أجسام الجن رقيقة ولضعف أبصارنا لا نراهم لا لعلة أخرى، ولو قوى الله أبصارنا أو كثف أجسامهم لرأيناهم. وقال السهيلي: الجن ثلاثة أصناف، كما جاء في حديث: صنف على صور الحيات، وصنف على صورة كلاب سود، وصنف ريح طيارة. أو قال: هفافة ذو أجنحة، وهم يتصورون في صور الحيات والعقارب، وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني أدم. وقال القاضي أبو يعلى: ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور، وإنما يجوز أن يعلمهم الله كلمات وضربا من ضروب الأفعال، إذا فعله وتكلم به نقله من صورة إلى صور أخرى. وأما أن يصور نفسه فذاك محال.
النوع الخامس: في أن الجن على أنواع منهم: الغول، وهو العفريت، قالوا: إن الغول حيوان لم تحكمه الطبيعة وأنه لما خرج منفردا توحش ولم يستأنس وطلب القفار، ويتلون في ضروب من الصور ويتراءى في الليل وفي أوقات الخلوات لمن كان مسافرا وحده فيتوهم أنه إنسان ويضل المسافر عن الطريق، ومنهم: السعلاة، وهي مغايرة للغول، وأكثر ما يوجد في الفيافي إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما تلعب السنور بالفأر، ومنهم: الغدار، وهو يوجد بأكناف اليمن وربما يوجد في أرض