عمدة القاري - العيني - ج ٩ - الصفحة ١٥٦
طيبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك. وروى ابن أبي شيبة عن شريك عن أبي إسحاق عن الأسود عنها: كان يتطيب قبل أن يحرم فيرى أثر الطيب في مفرقه بعد ذلك بثلاث. وروى أيضا عن ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن إبراهيم عن الأسود عنها: (رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث وهو محرم) وعند النسائي: (بعد ثلاث وهو محرم)، وفي أخرى: (في أصول شعره)، وفي لفظ: (إذا أراد أن يحرم ادهن بأطيب دهن يجده حتى أرى وبيصه في رأسه ولحيته). وعند الدارقطني من حديث ابن عقيل عن عروة عنها: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان ودهنه بزيت غير كثير). وفي (مسند أبي محمد الدارمي): (طيبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لحرمه وطيبته بمنى قبل أن يفيض). وعند أبي علي الطوسي: (طيبته قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك).
ذكر معناه: قوله: (يدهن بالزيت) أي: عند الإحرام بشرط أن لا يكون مطيبا. وقال الكرماني. (يدهن بالزيت) أي: لا يتطيب. وتقدم في: باب من تطيب، في كتاب الغسل أن ابن عمر قال: ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا. قوله: (فذكرته) أي: قال منصور: ذكرت امتناع ابن عمر من التطيب لإبراهيم النخعي. قوله: (ما تصنع بقوله؟) أي: بقول ابن عمر، أي: ماذا تصنع بقوله حيث ثبت ما ينافيه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال الكرماني: يجوز أن يكون الضمير في: بقوله، عائدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: فإن قلت: هذا فعل الرسول وتقريره لا قوله قلت: فعله في بيان الجواز، كقوله. قوله: (كأني أنظر) أرادت بذلك قوة تحققها لذلك، بحيث أنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه. قوله: (إلى وبيص)، بفتح الواو وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره صاد مهملة، وهو: البريق، والمراد: أثر الطيب لا جرمه. وقال الإسماعيلي: الوبيص زيادة على البريق، والمراد به: التلألؤ، وهو يدل على وجود عين قائمة، لا الربح فقط. قوله: (في مفارق) جمع: مفرق، وهو وسط الرأس، وإنما جمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها. وقال الجوهري: قولهم للمفرق مفارق كأنهم جعلوا كل موضع منه مفرقا. قوله: (وهو محرم)، الواو في للحال.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر في أن المحرم إذا تطيب قبل إحرامه بما شاء الطيب مسكا كان أو غيره، فإنه لا بأس به، ولا شيء عليه سواء كان مما يبقى عليه بعد إحرامه أو لا ولا يضره بقاؤه عليه، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد والثوري والأوزاعي، وهو قول عائشة راوية الحديث، وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الزبير، وابن جعفر وأبي سعيد الخدري، وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق، وفي (شرح المهذب): استحبه عند إرادة الإحرام معاوية وأم حبيبة وابن المنذر وإسحاق وأبو ثور، ونقله ابن أبي شيبة عن عروة بن الزبير عمر بن عبد العزيز وإبراهيم في رواية، وذكره ابن حزم عن البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي ذر والحسين بن علي وابن الحنفية والأسود والقاسم وسالم وهشام بن عروة وخارجة بن زيد وابن جريج. وقال آخرون، منهم عطاء والزهري وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن: لا يجوز أن يتطيب المحرم قبل إحرامه بما يبقى عليه رائحته بعد الإحرام، وإذا أحرم حرم عليه الطيب حتى يطوف بالبيت، وإليه ذهب محمد بن الحسن، واختاره الطحاوي، وهذا مذهب عمر وعثمان وابن عمر وعثمان بن العاص. وقال الطرطوشي: يكره الطيب المؤنث كالمسك والزعفران والكافور والغالية والعود ونحوها، فإن تطيب وأحرم به فعليه الفدية، فإن أكل طعاما فيه طيب، فإن كانت النار مسته فلا شيء عليه، وإن لم تمسه النار ففيه وجهان، وأما غير المؤنث مثل الرياحين والياسمين والورد فليس من ذلك ولا فدية فيه أصلا، والطيب المؤنث طيب النساء: كالخلوق والزعفران، قاله شمر. وأما شم الريحان ففي (شرح المهذب): الريحان الفارسي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس فيها قولان: أحدهما: يجوز شمها لما روي عن عثمان، رضي الله تعالى عنه، أنه سئل عن المحرم يدخل البستان قال: نعم ويشم الريحان. والثاني: لا يجوز لأنه يراد للرائحة، فهو كالورد والزعفران، والأصح تحريم شمها ووجوب الفدية، وبه قال ابن عمر وجابر والثوري ومالك وأبو حنيفة وأبو ثور إلا أن أبا حنيفة ومالكا يقولان: يحرم ولا فدية. وقال ابن المنذر
(١٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 161 ... » »»