أي: الذي تجعله. قال ابن بطال: تجعل، برفع اللام، و: ما، كافة كفت: حتى عن عملها. قوله: (في في امرأتك) أي: في فم امرأتك، وأصل فم: فوه، لأن الجمع: أفواه، وعند الإفراد لا يحتمل الواو التنوين فحذفوها وعوضوا من الهاء ميما، وقالوا: هذا فم وفمان وفموان، ولو كان الميم عوضا من الواو لما اجتمعا. قوله: (أخلف) على صيغة المجهول، يعني أخلف في مكة بعد أصحابي المهاجرين المنصرفين معك؟ قال أبو عمر: يحتمل أن يكون لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنك لن تنفق نفقة، وتنفق فعل مستقبل، أيقن أنه لا يموت من مرضه ذلك. أو أظن ذلك فاستفهمه: هل يبقى بعد أصحابه؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بضرب من قوله: (لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله). وهو قوله: (إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به رفعة ودرجة)، وقال القرطبي: هذا الاستفهام إنما صدر من سعد، رضي الله تعالى عنه، مخافة المقام بمكة إلى الوفاة، فيكون قادحا في هجرته، كما نص عليه في بعض الروايات، إذ قال: (خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها). فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يكون وإنه يطول عمره وقال عياض كان حكم الهجرة باقيا بعد الفتح بهذا الحديث وقيل إنما كان ذلك لمن هاجر قبل الفتح، فأما من هاجر بعده فلا. قوله: (إلا ازددت به) أي: بالعمل الصالح. قوله: (ثم لعلك أن تخلف) المراد بتخلفه طول عمره، وكان كذلك عاش زيادة على أربعين سنة، فانتفع به قوم وتضرر به آخرون. وقال ابن بطال: لما أمر سعد على العراق أتى بقوم ارتدوا فاستتابهم فتاب بعضهم وأصر بعضهم فقتلهم، فانتفع به من تاب وتضرر به الآخرون، وحكى الطحاوي هذا عن بكير بن الأشج عن أبيه عن عامر أنه سأله عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول، وأن المرتدين كانوا يسجعون سجعة مسيلمة، قال الطحاوي: ومثل هذا لم يقله عامر استنباطا، وإنما هو توقيف إما أن يكون سمعه من أبيه أو ممن يصلح له أخذ ذلك عنه، واعلم أن كلمة: لعل، معناها للترجي إلا إذا وردت عن الله أو رسوله أو أوليائه، فإن معناها التحقيق. قوله: (اللهم أمض) بقطع الهمزة، يقال: أمضيت الأمر أي أنفذته أي: تممها لهم ولا تنقصها عليهم فيرجعون إلى المدينة. قوله: (ولا تردهم على أعقابهم) أي: بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالم المرضية، فيخيب قصدهم ويسوء حالهم. ويقال لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه: رجع على عقبه، وحار. ومنه الحديث: (أعوذ بك من الحور بعد الكور)، أي من النقصان بعد الزيادة. قوله: (لكن البائس) بالباء الموحدة، وفي آخره سين مهملة، وهو الذي عليه أثر البؤس. أي: الفقر والعيلة، وقال الأصيلي: البائس الذي ناله البؤس، وقد يكون بمعنى مفعول، كقوله: * (عيشة راضية) * (الحاقة: 12، القارعة: 7). أي: مرضية. قوله: (سعد بن خولة)، مرفوع لأنه خبر لقوله: (البائس)، وعامة المؤرخين يقولون: ابن خولة، إلا أبا معشر، فإنه يقول: ابن خولى، وقال ابن التين: خولة، ساكنة الواو عند أهل اللغة والعربية، وكذا رواه بعضهم. وقل الشيخ أبو الحسن: ما سمعنا قط أحدا قرأه إلا بفتحها، والمحدثون على ذلك، قيل: إنه أسلم ولم يهاجر من مكة حتى مات بها، وذكره البخاري فيمن هاجر وشهد بدرا وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع كما ذكرناه. قوله: (يرثي له) أي: يرق له ويترحم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (إن مات)، بفتح الهمزة أي: لأنه مات بالأرض التي هاجر منها، وهذا كلام سعد ابن أبي وقاص، صرح به البخاري في كتاب الدعوات. وقال ابن بطال: وأما: (يرثي له صلى الله عليه وسلم) فهو من كلام الزهري، وهو تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: (لكن البائس سعد بن خولة)، أي: رثي له حين مات بمكة، وكان يهوى أن يموت بغيرها.
ذكر ما يستفاد منه: قال أبو عمر: هذا حديث اتفق أهل العلم على صحة سنده، وجعله جمهور الفقهاء أصلا في مقدار الوصية وأنه لا يتجاوز بها الثلث، إلا أن في بعض ألفاظه اختلافا عند نقلته، فمن ذلك ابن عيينة، قال فيه عن الزهري: عام الفتح، انفرد بذلك عن ابن شهاب فيما علمت، وقد روينا هذا الحديث من طريق معمر ويونس بن يزيد وعبد العزيز ابن أبي سلمة ويحيى ابن سعيد الأنصاري وابن أبي عتيق وإبراهيم بن سعد، فكلهم قال: عن ابن شهاب: عام حجة الوداع، كما قال مالك، وكذلك قال شعيب، قال ابن المنذر: الذين قالوا: حجة الوداع، أصوب. قال أبو عمر: وكذا رواه عفان بن مسلم عن وهيب بن خالد عن عبد الله بن عثمان عن عمر و بن القارئ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة عام الفتح فخلف سعدا مريضا حتى خرج إلى جنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو وجع مغلوب ، فقال سعد: يا رسول الله إن لي مالا....) الحديث، والعمل على هذا الحديث أن أهل العلم لا يرون أن يوصي الرجل بأكثر من الثلث، ويستحبون أن ينقص من الثلث. وقال الثوري: كانوا يستحبون في الوصية الخمس بعد الربع، والربع دون الثلث، فمن أوصى بالثلث فلم يترك شيئا، فلا يجوز له إلا الثلث، وأجمع علماء المسلمين