عمدة القاري - العيني - ج ٥ - الصفحة ٢٢٤
عن أبي هريرة مرفوعا: (ما يؤمن من يرفع رأسه قبل الإمام ويضعه) وفي رواية الدارقطني من رواية مليح السعدي عن أبي هريرة قال: (الذي يرفع رأسه قبل الإمام ويخفضه قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان). ورواه البزار أيضا، كما ذكرنا وذكرنا الآن أيضا عن ابن مسعود: (أن يعود رأسه رأس كلب؟) وهو موقوف، ولكنه لا يدرك بالرأي، فحكمه حكم المرفوع. قوله: (أو يجعل صورته صورة حمار؟) قال الكرماني أيضا: الشك فيه من أبي هريرة. وقال بعضهم: الشك من شعبة ثم أكد هذا بقوله، فقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة من رواية حماد بن زيد ومسلم من رواية يونس بن عبيد والربيع بن مسلم، كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد. قلت: لا يلزم من إخراجهم بغير تردد أن لا يخرج غيرهم بغير تردد، وإذا كان الأمر كذلك يحتمل أن يكون التردد من شعبة أو من محمد بن زياد أو من أبي هريرة، فمن ادعى تعيين واحد منهم فعليه البيان، وأما اختلافهم في الرأس أو الصورة ففي رواية حماد بن زيد وحماد بن سلمة: رأس، وفي رواية يونس: صورة وفي رواية الربيع، وجه. وقال بعضهم: الظاهر أنه من تصرف الرواة. قلت: كيف يكون من تصرفهم ولكل واحد من هذه الألفاظ معنى في اللغة يغاير معنى الآخر؟ أما الرأس فإنه اسم لعضو يشتمل على الناصية والقفاء والفودين. والصورة: الهيئة، ويقال: صورته حسنة أي: هيئته وشكله، ويطلق على الصفة أيضا يقال: صورة الأمر كذا وكذا أي: صفته، ويطلق على الوجه أيضا يقال: صورته حسنة أي: وجهه، ويطلق على شكل الشيء وعلى الخلقة. والوجه اسم لما يواجهه الإنسان، وهو من منبت الناصية إلى أسفل الذقن طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا. والظاهر أن هذا الاختلاف من اختلاف تعدد القضية، ورواة الرأس أكثر، وعليه العمدة. وقال عياض: هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس، ومعظم الصورة فيه، وفيه نظر، لأن الوجه خلاف الرأس لغة وشرعا.
ثم العلماء تكلموا في معنى: (أن يجعل رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار؟) قال الكرماني: قيل هذا مجاز عن البلادة، لأن المسخ لا يجوز في هذه الأمة. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ليس قوله: (أن يحول الله رأسه راس حمار) في هذه الأمة بموجود، فإن المسخ فيها مأمون، وإنما المراد به معنى الحمار من قلة البصيرة وكثرة العناد، فإن من شأنه إذا قيد حزن وإذا حبس طفر لا يطيع قائدا ولا يعين حابسا. قلت: في كلامهما: إن المسخ لا يجوز في هذه الأمة، وإن المسخ فيها مأمون، نظر، وقد روي وقوع ذلك في آخر الزمان عن جماعة من الصحابة، فرواه الترمذي من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف..) الحديث، وروي أيضا عن علي وأبي هريرة وعمران بن حصين، وروى ابن ماجة من حديث ابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن عمرو وسهل بن سعد وروى أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة وروى عبد الله بن أحمد في (زوائد المسند) من حديث عبادة بن الصامت وابن عباس وروى أبو يعلى والبزار من حديث أنس وروى الطبراني أيضا من حديث عبد الله بن بشر وسعيد بن أبي راشد وروى الطبراني أيضا في (الصغير) من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس أيضا، ولكن أسانيدها لا تخلو من مقال. وقال الشيخ تقي الدين: إن الحديث يقتضي تغيير الصورة الظاهرة، ويحتمل أن يرجع إلى أمر معنوي مجازا، فإن الحمار موصوف بالبلادة. قال: ويستعار هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فروض الصلاة ومتابعة الإمام، وربما يرجح هذا المجاز بأن التحويل في الصورة الظاهرة لم يقع من كثرة رفع المأمومين قبل الإمام، وقد بينا أن الحديث لا يدل على وقوع ذلك، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك بكون فعله صالحا لأن يقع ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء. قلت: وإن سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يؤخر العقاب إلى وقت يريده الله تعالى؟ كما وقفنا في بعض الكتب وسمعنا من الثقات أن جماعة من الشيعة الذين يسبون الصحابة قد تحولت صورتهم إلى صورة حمار و خنزير عند موتهم، وكذلك جرى على من عق والديه، وخاطبهما باسم الحمار أو الخنزير أو الكلب؟
ذكر ما يستفاد منه: فيه: كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب. وفيه: الوعيد المذكور لمن رفع رأسه قبل الإمام، ونظر ابن مسعود إلى من سبق إمامه فقال: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت. وعن ابن عمر نحوه، وأمره بالإعادة. والجمهور على عدم الإعادة. وقال القرطبي: من خالف الإمام فقد خالف
(٢٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 219 220 221 222 223 224 225 226 227 228 229 ... » »»