عمدة القاري - العيني - ج ٥ - الصفحة ٢١٩
وهو أن يتقشر جلد العضو. قوله: (فصلينا وراءه قعودا) أي: حال كوننا قاعدين. فإن قلت: هذا يخالف حديث عائشة لأن فيه: (فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما). قلت: أجيب عن ذلك بوجوه: الأول: أن في رواية أنس اختصارا وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس. الثاني: ما قاله القرطبي وهو أنه: يحتمل أن يكون بعضهم قعد من أول الحال، وهو الذي حكاه أنس، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهو الذي حكته عائشة. الثالث: ما قاله قوم وهو احتمال تعدد الواقعة، وقال بعضهم: وفيه بعد قلت: البعد في الوجهين الأولين، والوجه الثالث هو القريب، ويدل عليه ما وقع في رواية أبي داود عن جابر، رضي الله تعالى عنه، أنهم دخلوا يعودونه مرتين، فصلى بهما فيهما، وبين أن الأولى كانت نافلة وأقرهم على القيام وهو جالس، والثانية كانت فريضة وابتدأوا قياما فأشار إليهم بالجلوس. وفي رواية بشر عن حميد عن أنس نحوه عند الإسماعيل. قوله: (وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا) قيل: إن المراد بالأمر أن يقتدي به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين لأنه ذكر ذلك عقيب ذكر الركوع والرفع منه، والسجود فيحمل على أنه لما جلس بين السجدتين قاموا تعظيما له فأمرهم بالجلوس تواضعا، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: (إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا). وقال ابن دقيق العيد: هذا بعيد لأن سياق طرق الحديث يأباه ولأنه لو كان المراد بالجلوس في الركن لقال: وإذا جلس فأجلسوا ليناسب قوله: (فإذا سجدوا) فلما عدل عن ذلك إلى قوله: (وإذا صلى جالسا) كان كقوله: (وإذا صلى قائما).
ومما يستفاد منه: غير ما ذكرنا في الحديث السابق، مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها، واستحباب التأسي إذا حصل منها سقوط أو عثرة أو غير ذلك بما اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة، وبه الأسوة الحسنة، ومن ذلك أنه يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك، بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة.
قال أبو عبد الله قال الحميدي قوله إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا هو في مرضه القديم ثم صلى بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أبو عبد الله هو: البخاري نفسه، والحميدي هو شيخ البخاري وتلميذ الشافعي، واسمه: عبد الله بن الزبير بن عيسى ابن عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد القرشي الأسدي المكي، ويكنى أبا بكر، وهو من أفراد البخاري، مات سنة تسع عشرة ومائتين، ويفهم من هذا الكلام أن ميل البخاري إلى ما قاله الحميدي، وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي والثوري وأبو ثور وجمهور السلف أن القادر على القيام لا يصلي وراء القاعد إلا قائما. وقال المرغيناني: الفرض والنفل سواء. وقوله: إنما يؤخذ...) إلى آخره، إشارة إلى أن الذي يجب به العمل هو ما استقر عليه آخر الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم صلاته قاعدا والناس وراءه قيام، دل على أن ما كان قبله من ذلك مرفوع الحكم. فإن قلت: ابن حبان لم ير النسخ، فإنه قال، بعد أن روى حديث عائشة المذكور: وفي هذا الخبر بيان واضح أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا، وأفتى به من الصحابة جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس ابن فهد، ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع، فكان إجماعا والإجماع عندنا إجماع الصحابة. وقد أفتى به أيضا من التابعين. وأول من أبطل ذلك من الأمة المغيرة بن مقسم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذه عنه أبو حنيفة ثم عنه أصحابه وأعلى حديث احتجوا به حديث رواه جابر الجعفي عن الشعبي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحد بعدي جالسا)، وهذا لو صح إسناده لكان مرسلا، والمرسل عندنا وما لم يرو سيان، لأنا لو قبلنا إرسال تابعي وأن كان ثقة للزمنا قبول مثله عن اتباع التابعين، وإذ قبلنا لزمنا قبوله من أتباع التابعين، ويؤدي ذلك إلى أن نقبل من كل أحد إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا نقض الشريعة، والعجب أن أبا حنيفة يخرج عن جابر الجعفي ويكذبه، ثم لما اضطره الأمر جعل أحتج بحديثه، وذلك
(٢١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 214 215 216 217 218 219 220 221 222 223 224 ... » »»