عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ٥٢
اجتهاده إلى شيء لا يلزمنا الأخذ به، بل نجتهد كما اجتهد هو، فما أدى اجتهادنا إليه عملنا به وتركنا اجتهاده. واما محمد بن علي فهو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، الهاشمي المدني، أبو جعفر المعروف: بالباقر، سمي به لأنه بقر العلم أي: شقه بحيث عرف حقائقه، وهو أحد الأعلام التابعين الأجلاء، وروى هذا موصولا في (فوائد) الحافظ أبي بشر المعروف بسمويه، من طريق الأعمش، قال: سألت أبا جعفر الباقر عن الرعاف، فقال: لو سال نهر من دم ما أعدت منه الوضوء. وقال الكرماني: ويحتمل أن يكون محمد بن علي هذا محمد بن عليه المشهور بابن الحنيفة، والظاهر الأول. واعلم أن جميع ما ذكر في هذا الباب ليس بحجة على الحنفية، فإن كان من أقوال الصحابة فكل واحد له تأويل ومحمل صحيح، وإن كان من قول التابعين فليس بحجة عليهم، لما ذكرنا عن أبي حنيفة الآن. وأما عطاء فهو ابن أبي رباح وأثره وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه. قوله: (وأهل الحجاز) من عطف العام على الخاص، لأن طاوسا ومحمد بن علي وعطاء حجازيون، وغير هؤلاء الثلاثة مثل سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والفقهاء السبعة من أهل المدينة، ومالك والشافعي وآخرون، وخالفهم أبو حنيفة، واستدل بما رواه الدارقطني: إلا أن يكون دما سائلا، وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين. قال أبو عمر: وبه قال الثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وإن كان الدم يسيرا غير خارج ولا سائل فإنه لا ينقض الوضوء عند جميعهم، وما أعلم أحدا أوجب الوضوء من يسير الدم إلا مجاهدا وحده.
وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها الدم ولم يتوضا وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: حدثنا عبد الوهاب حدثنا سليمان بن التيمي عن بكر، قال: (رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه فخرج منها شيء من دم، فحكه بين إصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ). (البثرة)، بفتح الباء الموحدة وسكون الثاء المثلثة، ويجوز فتحها وهو خراج صغير. يقال: بثر وجهه، وهذا الأثر حجة للحنفية، لأن الدم الخارج بالعصر لا ينقض الوضوء عندهم لأنه مخرج، والنقض يضاف إلى الخارج دون المخرج كما هو مقرر في كتبهم، فإن فرح أحد من الخصوم أنه حجة على الحنفية فهي فرحة غير مستمرة.
وبزق ابن أبي أوفى دما فمضى في صلاته ابن أبي أوفى: اسمه عبد الله، وأبو أوفى اسمه: علقمة بن الحارث الصحابي بن الصحابي، شهد بيعة الرضوان وما بعدها من المشاهد، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة سنة سبع وثمانين، وقد كف بصره، وهو أحد من رآه أبو حنيفة من الصحابة وروى عنه، ولا يلتفت إلى قول المنكر المتعصب: وكان عمر أبي حنيفة حينئذ سبع سنين، وهو سن التمييز. هذا على الصحيح إن مولد أبي حنيفة سنة ثمانين، وعلى قول من قال: سنة سبعين، يكون عمره حينئذ سبعة عشر سنة، ويستبعد جدا أن يكون صحابي مقيما ببلدة، وفي أهلها من لا يكون رآه وأصحابه أخبر بحاله وهم ثقات في أنفسهم قوله: (بزق)، بالزاي والسين والصاد: بمعنى واحد، وهذا الأثر وصله سفيان الثوري، وفي (جامعه) عن عطاء بن السائب أنه رآه يفعل ذلك، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) بسند جيد عن عبد الوهاب الثقفي عن عطاء بن السائب، قال: رأيت ابن أبي أوفى بزق دما هو يصلي ثم مضى في صلاته، وهذا ليس بحجة لهم علينا، لأن الدم الذي يخرج من الفم، إن كان من جوفه فلا ينقض وضوءه، وإن كان من بين أسنانه فالاعتبار للغلبة بالبزاق والدم، ولم يتعرض الراوي لذلك، فلم يبق حجة. والحكم بالغلبة له أصل وروى ابن أبي شيبة عن الحسن في رجل بزق فرأى في بزاقه دما أنه لم يرد ذلك شيئا حتى يكون عبيطا، وروي عن ابن سيرين أنه ربما بزق فيقول لرجل: أنظر هل تغير الريق؟ فإن تغير، بزق الثانية، فإن كان في الثانية متغيرا فإنه يتوضأ، وإن لم يكن في الثانية متغيرا لم ير وضوأ. قلت: التغير لا يكون إلا بالغلبة.
وقال ابن عمر والحسن فيمن يحتجم ليس عليه إلا غسل محاجمه
(٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 ... » »»