محمد بن سيرين عن أبي هريرة: (طهور إناء أحدكم إذا ولع فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسله مرة واحدة). وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدد. وأخرجه الترمذي فيه عن سوار بن عبد الله العنبري، كلاهما عن معتمر بن سليمان به، ووقفه مسدد ورفعه سواه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال أبو داود: ذكر الهر موقوف. وقال البيهقي: مدرج.
بيان المعاني قوله: (إذا شرب الكلب) كذا هو في (الموطأ)، والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور أصحابه عنه: (إذا ولغ)، وهو المعروف في اللغة. وقال الكرماني: ضمن: شرب، معنى: ولغ، فعدي تعديته. يقال: ولغ الكلب من شرابنا، كما يقال: في شرابنا، ويقال: ولغ شرابنا أيضا. قلت: الشارع أفصح الفصحاء، وروي عنه: (شرب)، و: (ولغ)، لتقاربهما في المعنى، ولا حاجة إلى هذا التكلف. فان قلت: الشرب أخص من الولوغ فلا يقوم مقامه. قلت: لا نسلم عدم قيام الأخص مقام الأعم، لأن الخاص له دلالة على العام اللازم، كلفظ الإنسان له دلالة على مفهوم الحيوان بالتضمن، لأنه جزء مفهومه، وكذا له دلالة على مفهوم الماشي بالقوة بالالتزام، لكونه خارجا عن معنى الإنسان لازما له، فعلى هذا يجوز أن يذكر الشرب ويرادبه الولوغ. وادعى ابن عبد البر أن لفظة: شرب، لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ: ولغ، وليس كذلك، فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: (إذا شرب)، لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ: (إذا ولغ)، كذا أخرجه مسلم وغيره من طريق عنه، وقد رواه عن أبي الزناد شيخ مالك بلفظ: (إذا شرب)، وروي أيضا عن مالك بلفظ: (إذا ولغ) أخرجه أبو عبيد في (كتاب الطهور) له عن إسماعيل بن عمر عنه، ومن طريقه أورده الإسماعيلي، وكذا أخرجه الدارقطني في (الموطأ) له من طريق أبي علي الحنفي.
بيان استنباط الاحكام الأول: فيه دلالة على نجاسة الكلب، لأن الطهارة لا تكون إلا عن حدث أو نجس، والأول منتف فتعين الثاني، فإن قلت: استدل البخاري في هذا الباب المشتمل على الحكمين على الحكم الثاني وهو سؤر الكلب بالأثر الذي رواه عن الزهري والثوري، ثم استدل بهذا الحديث المرفوع، فما وجه دلالة هذا على ما ادعاه، والحال أن الحديث يدل على خلاف ما يقوله؟ قلت: أجاب عنه من ينصره ويتغالى فيه بأن سؤر الكلب طاهر، وأن الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه أمر تعبدي، فلا يدل على نجاسته. قلت: هذا بعيد جدا، لأن دلالة ظاهر الحديث على خلاف ما ذكروه، على أنا، ولئن سلمنا أنه يحتمل أن يكون الامر لنجاسته، ويحتمل أن يكون للتعبد، ولكن رجح الأول ما رواه مسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)، وروايته أيضا (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات)، ولو كان سؤره طاهرا لما أمر بإراقته، والذي قالوه نصرة للبخاري بغير ما يذكر عن المالكية. فان قلت: من قال إن البخاري ذهب إلى ما نسبوه له؟ قلت: قال ابن بطال في شرحه: ذكر البخاري أربعة أحاديث في الكلب، وغرضه من ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره. أقول: كلام ابن بطال ليس بحجة، فلم، لا يجوز أن يكون غرضه بيان مذاهب الناس فبين في هذا الباب مسألتين: أولاهما الماء الذي يغسل به الشعر، والثانية: سؤر الكلاب؟ بل الظاهر هذا، والدليل عليه أنه قال في المسألة الثانية: وسؤر الكلاب، واقتصر على هذه اللفظة ولم يقل وطهارة سؤر الكلاب.
الثاني: فيه نجاسة الإناء، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين الكلب البدوي والحضري لعموم اللفظ، وللمالكية فيه أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، والفرق بين الحضري والبدوي. وقال الرافعي في (شرحه الكبير): وعند مالك لا يغسل في غير الولوغ، لأن الكلب طاهر عنده. والغسل من الولوغ تعبدي. وقال الخطابي: إذا ثبت أن لسانه الذي يتناول به الماء نجس، علم أن سائر أجزائه في النجاسة بمثابة لسانه، فأي جزء من بدنه مسه وجب تطهيره.
الثالث: فيه دليل على أن الماء النجس يجب تطهير الإناء منه.
الرابع: قال الكرماني: فيه دليل على تحريم بيع الكلب إذ كان نجس الذات، فصارت كسائر النجاسات. قلت: يجوز بيعه عند أصحابنا لأنه منتفع به حراسة واصطيادا. قال الله تعالى * (وما علمتم من الجوارح