عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١٦٩
أذرع وإذا لم يكن بد من التخصيص فالتخصيص بالحديث أولى من التخصيص بالرأي من غير أصل يرجع إليه، ولا دليل يعتمد عليه. قلنا: لا تسلمك أن تقديم الخاص على العام متعين، بل الظاهر من مهب أبي حنيفة، رضي الله عنه ترجيح العام على الخاص في العمل به، كما في حديثكم حريم لئر الناضح فإنه رجح قوله: عليه السلام: من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا على الخاص الوارد في بئر الناضح أنه ستون ذراعا ورجح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أخرجت الأرض ففيه العشر) على الخاص الوارد بقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقه) ونسخ الخاص بالعام، قولهم: التخصيص بالحديث أولى من التخصيص بالرأي قلنا: هذا إنما يكون إذا كان الحديث المخصص غير مخالف للإجماع، وحديث القلتين خير آحاد ورد مخالفا لإجماع الصحابة فيرد بيانه أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم فتيا في زنجي وقع في بئر زمزم، بنزج الماء كله، ولم يظهر أثره في الماء، وكان الماء أكثر من قلتين، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم ينكر عليهما أحد منهم، فكان إجماعا وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يرد، يدل عليه أن علي بن المديني قال: لا يثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى به قدوة في هذا الباب وقال أبو داود، لا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، في تقدير الماء. وقال صاحب (البدائع) ولهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدلائل الحسية دون الدلائل السمعية.
الثاني: استدل به أبو يوسف على نجاسة الماء المستعمل، فإنه قرن بين الغسل فيه والبول فيه، وأما البول فيه فينجسه، فكذلك الغسل فيه وفي دلالة القران بين الشيئين على استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء فالمذكور عن أبي يوسف والمزني ذلك، وخالفهما غيرهما وقال بعضهم: واستدل به بعض الحنفية على تنجس الماء المستعمل، لأن البول ينجس الماء، فكذلك الاغتسال، وقد نهى عنهما معا، وهو التحريم، فدل على أن النجاسة فيهما ثابتة، ورد بأنها دلالة قران وهي ضعيفة قلت: هذا عجب منه، فإنه إذا كانت دلالة الاقتران صحيحة عنده، فبقوله: وهي ضعيفة، يرد على قائله: على أن مذهب أكثر أصحاب إمامه مثل مذهب بعض الحنفية، ثم قال هذا القائل: وعلى تقدير تسليمها قد يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول لئلا ينجسه، وعن الاغتسال فيه لئلا يسلبه الطهورية قلت: هذا أعجب من الأول، لأنه تحكم حيث لا يفهم هذه التسوية من نظم الكلام، والذي احتج به في نجاسة الماء المستعمل يقول بالتسوية من نظم الكلام.
الثالث: النووي زعم أن النهي المذكور فيه للتحريم في بعض المياه، والكراهة في بعضها، فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث، ولكن الأولى اجتنابه، وإن كان قليلا جاريا فقد قال جماعة من أصحابنا: يكره، والمختار أنه يحرم، لأنه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي، وإن كان كثيرا راكدا فقال أصحابنا يكره ولا يحرم ولو قيل يحرم لم يكن بعيدا وأما الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار: أنه حرام، والتغوط فيه كالبول فيه، وأقبح، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء قلت: زعم النووي أنه من باب استعمال اللفظ استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، وفيه من الخلاف ما هو معروف عند أهل الأصول.
الرابع: أن هذا الحديث عام فلا بد من تخصيصه اتفاقا بالماء المتبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، أو بحديث القلتين كما ذهب إليه الشافعي، وبالعمومات الدالة على طهورية الماء ما لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة كما ذهب إليه مالك رحمه الله. وقال بعضهم: الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه أعتذر عن القول به بأن القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة، كالجرة ولم يثبت في الحديث تقديرهما، فيكون مجملا فلا يعمل به، وقواه ابن دقيق العيد. قلت: هذا القائل أدعى ثم أبطل دعواه بما ذكره فلا يحتاج إلى ود كلامه بشيء آخر.
الخامس: فيه ذليل على تحريم الغسل والوضوء بالماء النجس.
السادس: فيه التأديب بالتنزه ومختص ببول نسفه، لغير البائل أن يتوضأ بما بال فيه غيره، أيضا للبائل إذا بال في إناء ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء ثم جرى إليه، وهذا من أقبح ما نقل عنه.
السابع: أن المذكور فيه الغسل من الجنابة، فيلحق به الاغتسال من الحائض والنفساء، وكذلك يحلق به اغتسال الجمعة، والاغتسال من غسل الميت عند من يوجبها. قلت: هل يلحق به الغسل المسنون أم لا؟ قلت: من اقتصر على اللفظ فلا إلحاق عنده كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس فمن زعم أن العلة
(١٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 164 165 166 167 168 169 170 171 172 173 174 ... » »»