والفاعل والمفعول، وهو الضمير الذي يرجع إلى شرب اللبن الذي يدل عليه قوله: (فشربت). قوله: (يا رسول الله) منادى منصوب. فإن قلت: ما الفاء في قوله: (فما أولته)؟ قلت: زائدة، كما في قوله تعالى: * (هذا فليذوقوه) * (ص: 57) قوله: (العلم) بالنصب والرفع روايتان، أما وجه النصب فعلى المفعولية، والتقدير: أولته العلم. وأما وجه الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: المؤول به العلم.
بيان المعاني: فيه: حذف المفعول من قوله: (فشربت)، للعلم به والتقدير: فشربت اللبن، يعني: منه، لأنه شرب حتى روي ثم أعطى فضله لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وفيه: استعمال المضارع موضع الماضي، وهو قوله: (يخرج)، وكان حقه أن يقال: خرج، ولكنه أراد استحضار صورة الرؤية للسامعين قصدا إلى أن يبصرهم تلك الحالة وقوعا وحدوثا. قوله: (ثم أعطيت فضلي) أي: ما فضل من اللبن الذي هو في القدح الذي شربت منه. قوله: (فما أولته)؟ أي: فما عبرته؟ والتأويل في اللغة: تفسير ما يؤول إليه الشيء. وههنا المراد به تعبير الرؤيا. وفيه: تأكيد الكلام بصوغه جملة اسمية، وتأكيدها بأن واللام في الخبر، وهو قوله: (إني لأري الري). فإن قلت: لم تكن الصحابة منكرين ولا مترددين في أخباره، فما فائدة هذه التأكيدات؟ قلت: قوله: (أرى الري يخرج في أظفاري) أورثهم حيرة في خروج اللبن من الأظفار، فأزال تلك الحيرة بهذه التأكيدات، كما في قوله تعالى: * (وما ابرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) * (يوسف: 53) لأن: ما أبرىء، أي: ما أزكي، أورث المخاطب حيرة في أنه كيف لا ينزه نفسه عن السوء مع كونها مطمئنة زكية، فأزال تلك الحيرة بقوله: * (إن النفس لأمارة بالسوء) * (يوسف: 53) في جميع الأشخاص إلا من عصمه الله. قوله: (العلم)، تفسير اللبن بالعلم لكونهما مشتركين في كثرة النفع بهما، وفي أنهما سببا الصلاح، فاللبن غذاء الإنسان وسبب صلاحهم وقوة أبدانهم، والعلم سبب الصلاح في الدنيا والآخرة وغذاء الأرواح. وقال المهلب: رؤية اللبن في النوم تدل على السنة والفطرة والعلم والقرآن، لأنه أول شيء يناله المولود من طعام الدنيا، وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القلوب، فهو يناسب العلم من هذه الجهة، وقد يدل على الحياة لأنها كانت في الصغر، وقد يدل على الثواب لأنه من نعيم الجنة، إذ روى نهر من اللبن، وقد يدل على المال والحلال. قال: وإنما أوله النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم في عمر، رضي الله عنه، لصحة فطرته ودينه، والعلم زيادة في الفطرة. فإن قلت: رؤيا الأنبياء، عليهم السلام، حق، فهل كان هذا الشراب وما يتعلق به واقعا حقيقة، أو هو على سبيل التخيل؟ قلت: واقع حقيقة ولا محذور فيه إذ هو ممكن، والله على كل شيء قدير.
بيان البيان: فيه: الاستعارة الأصلية، وهي قوله: (إني لأري الري)، لأن الري لا يرى، ولكنه شبه بالجسم، وأوقع عليه الفعل ثم أضيف إليه ما هو من خواص الجسم، وهو كونه مرئيا.
ومما يستفاد منه فضيلة عمر، رضي الله عنه، وجواز تعبير الرؤيا، ورعاية المناسبة بين التعبير. وما له التعبير.
23 ((باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها)) الكلام فيه على أنواع. الأول: أن الباب مرفوع بأنه خير مبتدأ محذوف مضاف إلى ما بعده، وفيه حذف تقديره: هذا باب في بيان ما يستفتى به الشخص وهو واقف، أي: والحال أنه واقف على ظهر الدابة أو غيرها. الثاني: أن الفتيا، بضم الفاء: اسم، وكذلك الفتوى، وهو الجواب في الحادثة. يقال: استفتيت الفقيه في مسألة فأفتاني، وتفاتوا إلى الفقيه: ارتفعوا إليه في الفتيا، وفي (المحكم): أفتاه في الأمر أبانه له، والفتى والفتيا والفتوى ما أفتى به الفقيه، الفتح لأهل المدينة. وقال الشيخ، قطب الدين: الفتيا اسم، ثم قال: ولم يجيء من المصادر على: فعلى، غير الفتيا والرجعي وبقيا ولقيا. قلت: فيه نظران إحدهما: أنه قال أولا: الفتيا اسم، ثم قال: مصدر. الثاني: أنه قال: لم يجئ من المصادر على فعلى، يعني بضم الفاء، غير هذه الأمثلة الأربعة، وقد جاء: العذرى بمعنى العذر، والعسرى بمعنى العسر، واليسرى بمعنى اليسر، والعتبى: بمعنى العتاب، والحسنى بمعنى الإحسان، والشورى بمعنى المشورة، والرغبى بمعنى الرغبة، والنهبى بمعنى الانتهاب، وزلفى بمعنى التزلف، وهو التقرب، والبشرى بمعنى البشارة. قوله: (على ظهر الدابة)، وفي بعض النسخ: على الدابة، من دب على الأرض يدب دبيبا، وكل ماش على الأرض دابة ودبيب، والدابة