من فقه) و: من، موصولة و: لم يرفع بذلك رأسا، صلتها. قوله: (ولم يقبل) عطف على: (من لم يرفع). و: (هدى الله) كلام إضافي مفعول: لم يقبل، وقوله: (الذي أرسلت به)، في محل النصب لأنه صفة هدى. و: أرسلت، مجهول، والضمير في: به، يرجع إلى: الذي. فافهم.
بيان المعاني: فيه عطف المدلول على الدليل: لأن الهدى هو الدلالة، والعلم هو المدلول، وجهة الجمع بينهما هو النظر إلى أن الهدى بالنسبة إلى الغير أي التكميل، والعلم بالنسبة إلى الشخص أي الكمال. ويقال: الهدى الطريقة، والعلم هو العمل، وفيه عطف الخاص على العام: لأن العشب أعم من الكلأ، كما ذكرناه. والتخصيص بالذكر لفائدة الاهتمام به لشرفه، ونحوه. وفيه حذف المفاعيل من قوله: (فشربوا وسقوا وزرعوا)، لكونها معلومة، ولأنها فضلة في الكلام. والتقدير:
فشربوا من الماء وسقوا دوابهم وزرعوا ما يصلح للزرع. وفيه ضرب الأمثال. وقال الخطابي: هذا مثل ضرب لمن قبل الهدى وعلم ثم علم غيره فنفعه الله ونفع به، ومن لم يقبل الهدى فلم ينفع بالعلم ولم ينتفع به. قلت: فعلى هذا لم يجعل الناس على ثلاثة أنواع، بل على نوعين. وقال الطيبي: القسمة الثنائية هي المتصورة، وذلك أن: (أصاب منها طائفة)، معطوف على: أصاب أرضا. و: كانت، الثانية معطوفة على: كان، لا على: أصاب. وقسمت الأرض الأولى إلى النقية وإلى الاجادب، والثانية على عكسها، وفي: كان، ضم وتر إلى وتر، وفي أصاب، ضم شفع إلى شفع، وهو نحو قوله تعالى: * (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) * (الأحزاب: 35) من جهة أنه عطف الإناث على الذكور أولا، ثم عطف الزوجين على الزوجين، وكذا ههنا عطف: كانت على كانت، ثم عطف: أصاب على أصاب. فالحاصل أنه قد ذكر في الحديث الطرفان العالي في الاهتداء والعالي في الضلال، فعبر عمن قبل هدى الله والعلم بقوله: (فقه)، وعن أبي قبولها بقوله: (لم يرفع بذلك رأسا). لأن ما بعدها وهو: نفعه... إلى آخره، في الأول. ولم يقبل هدى الله... إلى آخره، في الثاني عطف تفسيري لفقه، ولقوله: (لم يرفع)، وذلك لأن الفقيه هو الذي علم وعمل، ثم علم غيره وترك الوسط، وهو قسمان: أحدهما: الذي انتفع بالعلم في نفسه فحسب، والثاني: الذي لم ينتفع هو بنفسه، ولكن نفع الغير. وقال المظهري في (شرح المصابيح): إعلم أنه ذكر في تقسيم الأرض ثلاثة أقسام، وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين: أحدهما من فقه ونفع الغير، والثاني من لم يرفع به رأسا. وإنما ذكره كذلك لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه ينتفع به، والثاني هو ما لا ينتفع به، وكذلك الناس قسمان: من يقبل ومن لا يقبل. وهذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين: من ينتفع به ومن لا ينتفع. وأما في الحقيقة فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به ولم يبلغ درجة الإفادة، ومنهم من يقبل ويبلغ، ومنهم من لا يقبل. وقال الكرماني: ويحتمل لفظ الحديث تثليث القسمة في الناس أيضا، بأن يقدر قبل لفظة: نفعه، كلمة: من، بقرينة عطفه على: من فقه، كما في قوله حسان، رضي الله عنه.
* أمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء؟
* إذ تقديره: ومن يمدحه، وحينئذ يكون الفقيه بمعنى العالم بالفقه مثلا في مقابلة الأجادب، والنافع في مقابلة النقية على اللف والنشر غير المرتب، ومن لم يرفع في مقابلة القيعان. فإن قلت: لم حذف لفظة: من؟ قلت: إشعارا بأنهما في حكم شيء واحد، أي: في كونه ذا انتفاع في الجملة كما جعل للنقية والاجادب حكما واحدا، ولهذا لم يعطف بلفظ أصاب في الأجادب. انتهى. وقال النووي: معنى هذا التمثيل أن الأرض ثلاثة أنواع، فكذلك الناس. فالنوع الأول: من الأرض ينتفع بالمطر فتحيي بعد أن كانت ميتة، وتنبت الكلأ فينتفع به الناس والدواب. والنوع الأول: من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه ويحيي قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع. والنوع الثاني: من الأرض: ما لا يقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع به الناس والدواب. وكذا النوع الثاني: من الناس: لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أذهان ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس لهم اجتهاد في العمل به، فهم يحفظونه حتى يجيء أهل العلم للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم. والثالث: من الأرض: هو السباخ التي لا تنبت، فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به غيرها، وكذلك الثالث من الناس: ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم. الأول: المنتفع النافع، والثاني: النافع غير المنتفع. والثالث: غير النافع وغير المنتفع. فالأول: إشارة إلى العلماء. والثاني إلى النقلة. والثالث: إلى من لا علم له ولا عقل. قلت: الصواب مع الطيبي، لأن تقسيم الأرض، وإن كان ثلاثة