بحسب الظاهر، ولكنه في الحقيقة قسمان، لأن النوعين محمودان والثالث مذموم، وتقسيم الناس نوعان: أحدهما ممدوح، أشار إليه بقوله: (مثل من فقه في دين الله تعالى) الخ والآخر مذموم، أشار إليه بقوله: (ومثل من لم يرفع بذلك رأسا)، وما ذكره الكرماني تعسف، وهذا التقدير الذي ذكره غير سائغ في الاختيار. وباب الشعر واسع. وأيضا يلزمه أن يكون تقسيم الناس أربعة: الأول: قوله: (مثل من فقه في دين الله تعالى). والثاني: قوله: (ونفعه ما بعثني الله به) على قوله: والثالث: قوله: (ومثل من لم يرفع بذلك رأسا). والرابع: (ولم يقبل هدى الله). قوله: (فنفع الله بها) أي: بأجادب، وفي رواية الأصيلي: به، وتذكيره الضمير باعتبار الماء. قوله: (وزرعوا) من الزرع، كذا رواية البخاري، ولمسلم والنسائي وغيرهما: (ورعوا)، من الرعي. قال النووي: كلاهما صحيح، ورجح القاضي عياض رواية مسلم. وقال: هو راجع إلى الأولى، لأن الثانية لم يحصل منها نبات. قلت: ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا، بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت. وقال الشيخ قطب الدين: ويحتمل أن يريد بقوله: (ورعوا)، الناس الذي أخذوا العلم عن الذين حملوه على الناس، وهم غير الأصناف الثلاثة على رأي جماعة. وروي: ووعوا، وهو تصحيف. قوله: (من لم يرفع بذلك رأسا) يعني: تكبر، يقال ذلك ويراد به أنه لم يلتفت إليه من غاية تكبره.
بيان البيان: فيه تشبيه ما جاء به النبي، عليه الصلاة والسلام، من الدين بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وتشبيه السامعين له بالأرض المختلفة. فالأول: تشبيه المعقول بالمحسوس، والثاني: تشبيه المحسوس بالمحسوس، وعلى قول من يقول بتثليث القسمة يكون ثلاث تشبيهات على ما لا يخفى، ويحتمل أن يكون تشبيها واحدا من باب التمثيل، أي تشبيه صفة العلم الواصل إلى أنواع الناس من جهة اعتبار النفع وعدمه بصفة المطر المصيب، إلى أنواع الأرض من تلك الجهة. قوله: (فذلك مثل من فقه) تشبيه آخر ذكر كالنتيجة للأول، ولبيان المقصود منه. والتشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في وصف من أوصاف أحدهما في نفسه : كالشجاعة في الأسد، والنور في الشمس. ولا بد فيه من: المشبه، والمشبه به، وأداة التشبيه، ووجه الشبه. أما المشبه والمشبه به فظاهران، وكذا أداة التشبيه وهي الكاف، وأما وجه الشبه فهو الجهة الجامعة بين العلم والغيث، فإن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيي القلب الميت. فإن قلت: لم اختير الغيث من بين سائر أسماء المطر؟ قلت: ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ، قال تعالى: * (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا) * (الشورى: 28). وقد كان الناس قبل المبعث قد امتحنوا بموت القلوب، وتصوب العلم حتى أصابهم الله برحمة من عنده: وفيه التفصيل بعد الإجمال، فقوله: (أصاب أرضا) مجمل، وقوله: (فكان منها نقية) إلى آخره... تفصيل، فلذلك ذكره بالفاء. فإن قلت: لم كرر لفظة: مثل، في قوله: (من لم يرفع)؟ أجيب: بأنه نوع آخر مقابل لما تقدم، فلذلك كرره.
قال أبو عبد الله: قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت الماء أبو عبد الله هو البخاري، أراد أن إسحاق قال: قيلت، بالياء آخر الحروف المشددة، مكان قبلت بالباء الموحدة، وقال الأصيلي: قيلت، تصحيف من إسحاق، وإنما هي: قبلت، كما ذكر في أول الحديث، وقال غيره: معنى قيلت: شربت القيل. وهو شرب نصف النهار، يقال: قيلت الإبل إذا شربت نصف النهار. وقيل: معنى: قيلت: جمعت وحبست. قال القاضي: وقد رواه سائر الرواة، غير الأصيلي: قبلت، يعني بالباء الموحدة في الموضعين في أول الحديث وفي قول إسحاق، فعلى هذا إنما خالف إسحاق في لفظة طائفة جعلها مكان نقية، قاله الشيخ قطب الدين وبنحوه قال الكرماني. قال إسحاق: وفي بعض النسخ بعده: عن أبي أسامة، يعني حماد بن أسامة، والمقصود منه أنه روى إسحاق عن حماد لفظ: طائفة، بدل ما روى محمد بن العلاء عن حماد لفظ: نقية. وأما إسحاق، فقد قال الشيخ قطب الدين: هذا من المواضع المشكلة في كتاب البخاري، فإنه ذكر جماعة في كتابه لم ينسبهم، فوقع من بعض الناس اعتراض عليه بسبب ذلك لما يحصل من اللبس وعدم البيان، ولا سيما إذا شاركهم ضعيف في تلك الترجمة، وأزال الحاكم ابن الربيع اللبس بأن نسب بعضهم، واستدل على نسبته. وذكر الكلاباذي بعضهم، وذكر ابن السكن بعضا، ومن جملة التراجم المعترضة: إسحاق، فإنه ذكر هذه الترجمة في مواضع من كتابه مهملة، وهي كثيرة جدا. قال أبو علي الجياني: روى البخاري عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وإسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي، وإسحاق بن منصور الكوسج عن أبي أسامة حماد بن أبي أسامة، وقد حدث