عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ٥٧
وفي (مجمع الغرائب): الحسد أن يرى الإنسان لأخيه نعمة فيتمنى أن تكون له وتزول عن أخيه، وهو مذموم. والغبط: أن يرى النعمة فيتمناها لنفسه من غير أن تزول عن صاحبها، وهو محمود. وقال ثعلب: المنافسة أن يتمنى مثل ما له من غير أن يفتقر وهو مباح. ويقال: الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه، وبعضهم خصه بأن يتمنى ذلك لنفسه، والحق أنه أعم. وقال ابن سيده: يقال: حسده يحسده ويحسده حسدا، ورجل حاسد من قوم حسد والأنثى بغير هاء، وهم يتحاسدون. وحسده على الشيء وحسده إياه. وفي (الصحاح): يحسده حسودا. وقال الأخفش: وبعضهم يقول: يحسده بالكسر، والمصدر حسد بالتحريك، وحسادة، وهم قوم حسدة مثل: حامل وحملة. وقال ابن الأعرابي: الحسد مأخوذ من الحسود، وهو القراد، فهو يقشر القلب كما يقشر القراد الجلد فيمص الدم. قوله: (آتاه الله) بالمد في أوله، أي: أعطاه الله من الإيتاء وهو الإعطاء. قوله: (على هلكته)، بفتح اللام، أي: هلاكه. وفي (العباب): هلك الشيء يهلك بالكسر هلاكا وهلوكا ومهلكا ومهلكا وتهلوكا وهلكة وتهلكة وتهلكة. قال الله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) وقرأ الخليل: إلى التهلكة، بالكسر. قال اليزيدي: التهلكة، بضم اللام، من نوادر المصادر وليست مما يجري على القياس. وهلك يهلك مثال: شرك يشرك لغة فيه. قوله: (الحكمة) المراد بها القرآن، والله أعلم. كما جاء في حديث أبي هريرة: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه). وفي رواية: (ينفقه في الحق). وفي مسلم نحوه من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
بيان الإعراب: قوله: (لا حسد)، كلمة: لا، لنفي الجنس، و: حسد، اسمه مبني على الفتح، وخبره محذوف أي: لا حسد جائز، أو صالح، أو نحو ذلك. قوله: (رجل)، يجوز فيه الأوجه الثلاثة من الإعراب: الرفع على تقدير إحدى الاثنين خصلة رجل، فلما حذف المضاف اكتسى المضاف إليه إعرابه. والنصب على إضمار: أعني رجلا، وهي رواية ابن ماجة. والجر على أنه بدل من اثنين. وأما على رواية اثنتين بالتاء فهو بدل أيضا على تقدير حذف المضاف أي خصلة رجل لأن الاثنتين معناه خصلتين، على ما يجيء. قوله: (آتاه الله مالا) جملة من الفعل والفاعل، والمفعولين أحدهما الضمير المنصوب والآخر: مالا، وهي في محل الرفع أو الجر أو النصب على تقدير إعراب الرجل، لأنها وقعت صفته. قوله: (فسلط) على صيغة المجهول، وهي رواية أبي ذر، ورواية الباقين، فسلطه عطفا على: آتاه. وعبر بالتسليط لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشح. قوله: (ورجل) عطف على رجل الأول، وإعرابه في الأوجه كإعرابه. قوله: (آتاه الله الحكمة) مثل: (آتاه الله مالا). قوله: (فهو يقضي بها) جملة من المبتدأ والخبر عطف على ما قبلها.
بيان المعاني: قوله: (لا حسد إلا في اثنتين) أي: لا حسد في شيء إلا في اثنتين، أي: في خصلتين، وكذا هو في معظم الروايات بالتاء. ويروى: (إلا في اثنين)، أي: شيئين. فإن قلت: الحسد موجود في الحاسد لا في اثنتين، فما معنى هذا الكلام؟ قلت: المعنى لا حسد للرجل إلا في شأن اثنتين، لا يقال: قد يكون الحسد في غيرهما فكيف يصح الحصر؟ لأنا نقول: المراد لا حسد جائز في شيء من الأشياء إلا في اثنتين، أو المعنى: لا رخصة في الحسد في شيء إلا في اثنتين. فإن قلت: ما في هذين الاثنين غبطة، وهو غير الحسد، فكيف يقال: لا حسد؟ قلت: أطلق الحسد وأراد الغبطة، من قبيل إطلاق اسم المسبب على السبب. وقال الخطابي: معنى الحسد ههنا شدة الحرص والرغبة، كنى بالحسد عنهما، لأنهما سببه والداعي إليه، ولهذا سماه البخاري اغتباطا. وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث ما يبين ذلك، فقال فيه: (ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل). ذكره البخاري في فضائل القرآن في: باب اغتباط صاحب القرآن، من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، فلم يتمن السلب، وإنما تمنى أن يكون مثله. وقد تمنى ذلك الصالحون والأخيار، وفيه قول بأنه تخصيص لإباحة نوع من الحسد. وإخراج له عن جملة ما حظر منه كما رخص في نوع من الكذب. وإن كانت جملته محظورة، فالمعنى لا إباحة في شيء من الحسد إلا فيما كان هذا سبيله، أي: لا حسد محمود إلا هذا، وقيل: إنه استثناء منقطع بمعنى: لكن في اثنتين، وقال الكرماني: ويحتمل أن يكون من قبيل قوله تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * (الدخان: 56) أي: لا حسد إلا في هذين الاثنين، وفيهما: لا حسد أيضا، فلا حسد أصلا. قلت: المعنى في الآية: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوقع قوله: إلا الموتة الأولى، موقع ذلك، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل، فإنهم يذوقونها في المستقبل، ولا
(٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 ... » »»