عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ٤١
أنواع العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير. قوله: (سهل الله له)، أي في الآخرة، أو المراد منه: وفقه الله للأعمال الصالحة فيوصله بها إلى الجنة أو: سهل عليه ما يزيد به علمه، لأنه أيضا من طرق الجنة بل أقربها.
وقال جل ذكره * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) هذا في المعنى عطف على قوله: لقول الله تعالى: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19). المعنى؛ إنما يخاف الله من عباده العلماء، أي: من علم قدرته وسلطانه، وهم العلماء. قاله ابن عباس. وقال الزمخشري: المراد العلماء الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا، ومن كان عالما به كان آمنا. وفي الحديث: (أعلمكم بالله أشدكم له خشية). وقال رجل للشعبي: افتني أيها العالم؟ فقال: العالم من خشي الله. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وقد ظهر عليه الخشية حتى عرفت. انتهى. وقرئ: (إنما يخشى الله) برفع لفظة: الله، ونصب: العلماء، وهو قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة، رضي الله عنهما، ووجه هذه القراءة أن الخشية فيها تكون استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، ومن لوازم الخشية التعظيم، فيكون هذا من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم. وفي أيام اشتغالي على الإمام العلامة أبي الروح شرف الدين عيسى السر ماري في علمي التفسير والمعاني والبيان، تغمده الله برحمته، حضر شخص من أهل العلم وقت الدرس وسأله عن هذه الآية، فقال: خشية الله تعالى مقصورة على العلماء بقضية الكلام، وقد ذكر الله تعالى في آية أخرى أن الجنة لمن خشي، وهو قوله تعالى: * (ذلك لمن خشي ربه) * (البينة: 8) فليزم من ذلك أن لا تكون الجنة إلا للعلماء خاصة، فسكت جميع من كان هناك من الفضلاء الأذكياء الذين كان كل منهم يزعم أنه المفلق في العلمين المذكورين، فأجاب الشيخ، رحمه الله: إن المراد من العلماء: الموحدون، وإن الجنة ليست إلا للموحدين الذين يخشون الله تعالى. فإن قلت: ما وجه إدخال هذه الآية في الترجمة؟ قلت: هو ظاهر، وذلك أن الباب في العلم، والآية في مدح العلماء، ولم يستحقوا هذا المدح إلا بالعلم.
وقال * (وما يعقلها إلا العالمون) * (العنكبوت: 43) أي: وما يعقل الأمثال المضروبة إلا العلماء الذين يعقلون عن الله، وروى جابر، رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية، فقال: العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه). ووجه إدخالها في الترجمة ما ذكرناه في الآية السابقة.
وقالوا: * (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * (الملك: 10) هذا حكاية عن قول الكفار حين دخولهم النار، أي: لو كنا نسمع الإنذار سماع طالبين للحق، أو نعقله عقل متأملين، وإنما حذف مفعول نعقل لأنه جعل كالفعل اللازم، والمعنى: لو كنا من أهل العلم لما كنا من أهل النار، وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. وقال الزجاج: معناه لو كنا نسمع سمع من يعي، أو نعقل عقل من يميز وينظر، ما كنا من أهل النار. وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا: (إن لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عقله). فبقدر ما يعقل يعبد ربه، ولقد ندم الفجار يوم القيامة فقالوا: * (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * (الملك: 10) روى أنس، رضي الله عنه، مرفوعا؛ (إن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات، وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم. فإن قلت: ما وجه إدخال هذه الآية في الترجمة؟ قلت: وجهه أن المراد من العقل العلم ههنا، فإن الكفار تمنوا أن لو كان لهم العلم لما دخلوا النار.
وقال * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (الزمر: 9) أراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم يفتنون بالدنيا، ووجه دخولها في الترجمة هو أن الله تعالى نفى المساواة بين العلم والجاهل، ويقتضي نفي المساواة أيضا بين العالم والجاهل، وفيه مدح للعلم وذم للجهل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه
(٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 ... » »»