عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ٣٨
يريش، يقال: رشت فلانا إذا أصلحت حاله، والعسيل، بفتح العين المهملة وكسر السين المهملة، مكنسة العطار الذي يجمع به العطر.
بيان المعاني قوله: (قعد على بعيره)، وذلك كان بمنى في يوم النحر في حجة الوداع. قوله: (وأمسك إنسان بخطامه) قيل: هذا الممسك كان بلالا، رضي الله تعالى عنه، واستدل عليه بما رواه النسائي من طريق أم الحصين، قالت: حججت فرأيت بلالا يقود بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم. ويقال: كان الممسك عمرو بن خارجة، فإنه وقع في السنن من حديثه، قال: كنت آخذ بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم... فذكر الخطبة. قيل: هو أولى أن يفسر به المبهم، لأنه أخبر عن نفسه أنه كان ممسكا بزمام ناقته، عليه الصلاة والسلام، ويقال: كان الممسك هو أبا بكرة الراوي، لما روى الإسماعيلي عن الحسين عن سفيان عن حبان عن ابن المبارك عن أبي عون بسنده إلى أبي بكرة. قال: (خطب رسول الله، عليه الصلاة والسلام، على راحلته يوم النحر، وأمسكت، إما قال: بخطامها أو بزمامها). قوله: (أي يوم)، هذا؟ ليس في رواية المستملي والأصيلي والحموي السؤال عن الشهر، والجواب الذي قبله ولفظهما: (أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس بذي الحجة؟) وفي رواية الكشميهني وكريمة بالسؤال عن الشهر والجواب الذي قبله، وهي أيضا كذلك في مسلم وغيره، وكذا وقع في مسلم وغيره السؤال عن البلد، فهذه ثلاثة أسئلة عن اليوم والشهر والبلد، وهي ثابتة عند البخاري في الأضاحي من رواية أيوب، وفي الحج أيضا من رواية قرة، كلاهما عن ابن سيرين. وذكر في أول حديثه: (خطبنا رسول الله، عليه الصلاة والسلام، يوم النحر، فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه). وذكر قوله: الله ورسوله أعلم في الجواب عن الأسئلة الثلاثة، وكذلك أورده من رواية ابن عمر، وجاء من رواية ابن عباس، رضي الله عنهما: (خطبنا رسول الله، عليه الصلاة والسلام، يوم النحر، فقال: أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: هذا يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام. قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام). فإن قلت: حديث ابن عباس يشعر بأنهم أجابوه بقولهم: هذا يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام، وهو مخالف للمذكور هنا من حديث أبي بكرة، ومن حديث ابن عمر أيضا أنهم سكتوا حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، الجواب أنه يحتمل أن تكون الخطبة متعددة، فأجاب في الثانية من علم في الأولى، ولم يجب من لم يعلم فنقل كل من الرواة ما سمع، ويقال: إن حديث أبي بكرة من رواية مسدد وقع ناقصا مخروما لنسيان وقع من بعض الرواة. قوله: (فإن دماءكم)، فيه حذف تقديره: سفك دمائكم، وكذا في: أموالكم، التقدير: أخذ أموالكم، وكذا في: أعراضكم، التقدير: سلب أعراضكم. قوله: (ليبلغ الشاهد)، أي الحاضر في المجلس الغائب عنه، والمراد منه إما تبليغ القول المذكور، أو تبليغ جميع الأحكام. فافهم.
بيان استنباط الأحكام: هو على وجوه. الأول: فيه أن العالم يجب عليه تبليغ العلم لمن لم يبلغه، وتبيينه لمن لا يفهمه، وهو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على العلماء. * (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) * (آل عمران: 187). الثاني: فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم من ليس لمن تقدمه، وأن ذلك يكون في الأقل، لأن: رب، موضوعة للتقليل، و: عسى، موضعها الإطماع، وليست لتحقيق الشيء. الثالث: فيه أن حامل الحديث يجوز أن يؤخذ عنه، وإن كان جاهلا بمعناه، وهو مأخوذ من تبليغه، محسوب في زمرة أهل العلم. الرابع: فيه أن ما كان حراما يجب على العالم أن يؤكد حرمته، ويغلظ عليه بأبلغ ما يوجد، كما فعل النبي، عليه الصلاة والسلام، في المتشابهات. الخامس: فيه جواز القعود على ظهر الدواب إذا احتيج إلى ذلك، لا للأشر والبطر، والنهي في قوله، عليه السلام: (لا تتخذوا ظهور الدواب مجالس)، مخصوص بغير الحاجة. السادس: فيه الخطبة على موضع عال ليكون أبلغ في سماعها للناس، ورؤيتهم إياه. السابع: فيه مساواة المال والدم والعرض في الحرمة. الثامن: فيه تشبيه الدماء والأموال والأعراض باليوم وبالشهر وبالبلد في الحرمة دليل على استحباب ضرب الأمثال، وإلحاق النظير بالنظير قياسا، قاله النووي.
الأسئلة والأجوبة: منها ما قيل: لم شبه الدماء والأموال والأعراض في الحرمة باليوم والشهر والبلد في غير هذه الرواية؟ أجيب: بأنهم كانوا لا يرون استباحة هذه الأشياء وانتهاك حرمتها بحال، وكان تحريمها ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم بخلاف الدماء والأموال والأعراض، فإنهم في الجاهلية كانوا يستبيحونها. وقال بعضهم: أعلمهم الشارع بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه لأن الخطاب إنما وقع
(٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 ... » »»