بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع. قلت: لا نسلم أن الشارع قال: حرمة هذه الأشياء أعظم من حرمة تلك الأشياء حتى يرد السؤال بكون المشبه به أخفض رتبة من المشبه، وإنما الشارع شبه حرمة تلك بحرمة هذه، لما ذكرنا من وجه التشبيه من غير تعرض إلى غير ذلك. ومنها ما قيل: لم سأل، عليه السلام، عن هذه الأشياء الثلاثة وسكت بعد كل سؤال منها؟ أجيب: لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليعلموا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: (فإن دماكم)... إلى آخره، مبالغة في تحريم الأشياء المذكورة. ومنها ما قيل: لم كان جوابهم عن كل سؤال بقولهم: الله ورسوله أعلم، على ما ثبت في الرواية الأخرى للبخاري وغيره؟ أجيب: إنما كان ذلك لحسن أدبهم. لأنهم كانوا يعلمون أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراد مطلق الإخبار بما يعرفونه، ولهذا قال في رواية الباب: (حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه) وفيه إشارة إلى تفويض الأمور بالكلية إلى الشارع، والانعزال عما ألفوه من المتعارف المشهور. ومنها ما قيل: لم أمسك الممسك بخطام ناقته؟ أجيب: لصونه البعير عن الاضطراب والتشويش على راكبه.
10 ((باب العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19) فبدأ بالعلم)) أي: هذا باب في بيان أن العلم قبل القول والعمل، أراد أن الشيء يعلم أولا، ثم يقال ويعمل به، فالعلم مقدم عليهما بالذات، وكذا مقدم عليهما بالشرف، لأنه عمل القلب، وهو أشرف أعضاء البدن. وقال ابن بطال: العمل لا يكون إلا مقصودا، يعني متقدما، وذلك المعنى هو علم ما وعد الله عليه بالثواب. وقال ابن المنير، أراد أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح النية المصححة للعمل، فنبه البخاري على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: إن العلم لا يفيد إلا بالعمل تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه. قوله: (فبدأ بالعلم) أي: بدأ الله تعالى بالعلم أولا حيث قال: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19) ثم قال: * (واستغفر لذنبك) * (محمد: 19) الاستغفار إشارة إلى القول والعمل؛ والخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو متناول لأمته. وقال الزجاج: هو متعلق بمحذوف؛ المعنى، قد بينا وقلنا ما يدل على أن الله تعالى واحد، فاعلم ذلك. والنبي، عليه الصلاة والسلام، قد علم ذلك، ولكنه خطاب يدخل الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، كقوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن) * (الطلاق: 1)، والمعنى: من علم فليقم على ذلك العلم، كقوله تعالى 1764; * (اهدنا الصراط المستقيم) * (الفاتحة: 6) أي ثبتنا. وقيل: يتعلق بما قبله، والمعنى: إذا جاءتهم الساعة فاعلم أن لا ملك ولا حكم لأحد إلا لله، ويبطل ما عداه. وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم، فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به فقال: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) * (محمد: 19) فأمره بالعمل بعد العلم، ويعلم من الآية أن التوحيد مما يجب العلم به، ولا يجوز فيه تقليد. وقال الأكثرون: يكفي الاعتقاد الجازم، وإن لم يعرف الأدلة، وهذا هو المعروف من سيرة السلف. ومذهب أكثر المتكلمين أن إيمان المقلد في أصول الدين غير صحيح. وقال محيي السنة: يجب على كل مكلف معرفة علم الأصول، ولا يسع فيه التقليد لظهور دلائله. فإن قلت: ما وجه المناسبة بين البابين؟ قلت: من حيث إن المذكور في الباب الأول هو حال المبلغ والسامع، والمبلغ، بكسر اللام، والمبلغ، بفتحها، لا يقدران على التعليم والتعلم إلا بالعلم، وهذا الباب في بيان العلم قبل القول والعمل.
وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر.
يجوز في: أن، الكسر والفتح، أما الفتح فبالعطف على ما قبله، وأما الكسر فعلى سبيل الحكاية، أو على تقدير باب هذه الجملة، وهذا من حديث مطول أخرجه الترمذي عن محمود بن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، قال: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم، وأن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء، عليهم السلام، لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر). ثم قال: كذا حدثنا محمود، وإنما يروى هذا