صلى الله عليه وسلم وشفقة على المسلمين لئلا يؤذوا النبي، عليه الصلاة والسلام. فيدخلوا تحت قوله: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذابا مهينا) * (الأحزاب: 57). وعن ابن عباس، رضي الله عنهما: كان قوم يسألون رسول الله، عليه الصلاة والسلام، استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. فإن قلت: بماذا نصب: ربا ودينا ونبيا؟ قلت: على التمييز، وهو، وإن كان الأصل أن يكون في المعنى فاعلا، يجوز أن يكون مفعولا أيضا، كقوله تعالى: * (وفجرنا الأرض عيونا) * (القمر: 12) ويجوز أن يكون نصبها على المفعولية، لأن: رضي إذا عدي بالباء يتعدى إلى مفعول آخر، والمراد من الدين ههنا التوحيد، وبه فسر الزمخشري في قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) * (آل عمران: 85) يعني التوحيد، وأما في حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل...) الحديث، فقد أطلق رسول الله، عليه الصلاة والسلام، الدين على الإسلام والإيمان والإحسان. بقوله: (إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وإنما علمهم هذه الثلاثة، والحاصل أن الدين تارة يطلق على الثلاثة التي سأل عنها جبريل، عليه السلام. وتارة يطلق على الإسلام كما في قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) * (المائدة: 3) وهذا يمنع قول من يقول: بين الآية والحديث معارضة حيث أطلق الدين في الحديث على ثلاثة أشياء، وفي الآية على شيء واحد. واختلاف الإطلاق إما بالاشتراك أو بالحقيقة أو المجاز أو بالتواطىء، ففي الحديث أطلق على مجموع الثلاثة وهو أحد مدلوليه، وفي الآية أطلق على الإسلام وحده، وهو مسماه الآخر. فإن قلت: لم قال. بالإسلام، ولم يقل: بالإيمان؟ قلت: الإسلام والإيمان واحد، فلا يرد السؤال. قوله: (فسكت) أي: رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وفي بعض النسخ وجد قبل لفظة ثلاثا أي: قاله ثلاث مرات. وفي بعض الروايات: (فسكن غضبه) موضع (فسكت). وكان ذلك من أثر ما قاله عمر، رضي الله تعالى عنه، فلم يزل موفقا في رأيه ينطق الحق على لسانه، رضي الله عنه، والله أعلم.
30 ((باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه)) أي هذا باب في بيان من أعاد كلامه في أمور الدين ثلاث مرات لأجل أن يفهم عنه، وفي بعض النسخ: ليفهم، بكسر الهاء بدون لفظة: عنه. أي: ليفهم غيره. قال الخطابي: إعادة الكلام ثلاثا إما لأن من الحاضرين من يقصر فهمه عن وعيه فيكرره ليفهم، وإما أن يكون القول فيه بعض الإشكال فيتظاهر بالبيان. وقال أبو الزناد: أو أراد الإبلاغ في التعليم والزجر في الموعظة.
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول يرجع إلى شأن السائل المتعلم، وهذا الباب أيضا في شأن المتعلم، لأن إعادة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات إنما كانت لأجل المتعلمين والسائلين ليفهموا كلامه حق الفهم، ولا يفوت عنهم شيء من كلامه الكريم.
فقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها هذه قطعة من حديث ذكرها على سبيل التعليق، وذكره في كتاب الشهادات موصولا بتمامه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئا، فقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت). قوله: (ألا) مخفف حرف التنبيه، ذكر ليدل على تحقيق ما بعده وتأكيده. قوله: (وقول الزور) في الحديث مرفوع عطفا على قوله: (الإشراك بالله) فههنا أيضا مرفوع لأنه حكاية عنه، و: الزور، بضم الزاي: الكذب والميل عن الحق، والمراد منه الشهادة، فلذلك أنث الضمير في قوله: يكررها، وأنثه باعتبار الجملة، أو باعتبار الثلاثة. ومعنى قوله: (فما زال يكررها) أي: ما دام في مجلسه لا مدة عمره.
وقال ابن عمر: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: هل بلغت ثلاثا هذا أيضا، تعليق وصله في خطبة الوداع عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا شهرنا هذا. قال: ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا بلدنا هذا. قال: ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا يومنا هذا. قال: فإن الله تبارك وتعالى حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. في شهركم هذا ألا هل بلغت؟ ثلاثا. كل ذلك يجيبونه: ألا نعم. قال: ويحكم أو: ويلكم لا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض). قوله: (ثلاثا). يتعلق بقوله: (قال). لا بقوله: (بلغت). والمعنى: قال: هل بلغت؟ ثلاث مرات.