فرضا عندهم لما توجه الوعيد، لأن المسح لو كان هو المشمول فيما بينهم كان يأمرهم بتركه وانتقالهم إلى الغسل بدون الوعيد، ولأجل ذلك قال القاضي عياض: معناه: نغسل كما ذكرناه آنفا، والصواب أن يقال: إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء، ووعيده وإنكاره عليهم في ذلك الغسل يدل على أن وظيفة الرجلين هو الغسل الوافي لا الغسل المشابه بالمسح كغسل هؤلاء. وقول عياض: وقد أمرهم بالغسل بقوله: (اسبغوا الوضوء)، غير مسلم لأن الأمر بالإسباغ أمر بتكميل الغسل، والأمر بالغسل فهم من الوعيد لأنه لا يكون إلا في ترك واجب، فلما فهم ذلك من الوعيد أكده بقوله: (اسبغوا الوضوء)، ولهذا ترك العاطف، فوقع هذا تأكيدا عاما يشمل الرجلين وغيرهما من أعضاء الوضوء، لأنه لم يقل: اسبغوا الرجلين: بل قال: (اسبغوا الوضوء)، والوضوء هو غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، ومطلوبية الإسباغ غير مختصة بالرجلين، فكما أنه مطلوب فيهما، فكذلك مطلوب في غيرهما. فإن قلت: لم ذكر الإسباغ عاما والوعيد خاصا. قلت: لأنهم ما قصروا إلا في وظيفة الرجلين، فلذلك ذكر لفظ الأعقاب، فيكون الوعيد في مقابلة ذلك التقصير الخاص.
بيان استنباط الأحكام: الأول: فيه دليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، لأن المسح لو كان كافيا لما أوعد من ترك غسل العقب بالنار، وسيأتي الكلام فيه في بابه مستوفى. الثاني: فيه وجوب تعميم الأعضاء بالمطهر، وإن ترك البعض منها غير مجزىء. الثالث: تعليم الجاهل وإرشاده. الرابع: أن الجسد يعذب، وهو مذهب أهل السنة. الخامس: جواز رفع الصوت في المناظرة بالعلم. السادس: أن العالم ينكر ما يرى من التضييع للفرائض والسنن، ويغلظ القول في ذلك، ويرفع صوته للإنكار. السابع: تكرار المسألة تأكيدا لها ومبالغة في وجوبها، وسيأتي ذكره في باب: من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم.
الأسئلة والأجوبة: منها ما قيل: إن الرجل له رجلان وليس له أرجل، فالقياس أن يقال على رجلينا. أجيب: بأن الجمع إذا قوبل بالجمع يفيد التوزيع، فتوزع الأرجل على الرجال. ومنها ما قيل: فعلى هذا يكون لكل رجل رجل. أجيب: بأن جنس الرجل يتناول الواحد والاثنين، والعقل يعين المقصود، سيما فيما هو محسوس. ومنها ما قيل: إن المسح على ظهر القدم لا على الرجل كلها. أجيب: بأنه أطلق الرجل، وأريد البعض أي: ظهر القدم، ولقرينة العرف الشرعي إذ المعهود مسح ذلك، وهذا فيه نظر، لأنهم ما كانوا يمسحون مثل مسح الرأس، وإنماا كانوا يغسلون، ولكن غسلا خفيفا، فلذلك أطلقوا عليه المسح وقد حققناه عن قريب. ومنها ما قيل: لم خص الأعقاب بالعذاب؟ أجيب: لأنها العضو التي لم تغسل. وفي (الغريبين): وفي الحديث: (ويل للعقب من النار)، أي: لصاحب العقب المقصر عن غسلها، كما قال: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) أي: أهل القرية، وقيل: إن العقب يخص بالمؤلم من العقاب إذا قصر في غسلها، وفي (المنتهى في اللغة): وفي الحديث: (ويل للأعقاب من النار). أراد التغليظ في إسباغ الوضوء، وهو التكميل والإتمام والسبوغ: الشمول. ومنها ما قيل: ما الألف واللام في: الأعقاب؟ أجيب: بأنها للعهد، أي: للأعقاب التي رآها كذلك لم تمسها الماء، أو يكون المراد: الأعقاب التي صفتها هذه، لا كل الأعقاب. ومنها ما قيل: إن اللام للاختصاص النافع إذ المشهور أن اللام تستعمل في الخير، وعلى في الشر، نحو: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286) وأجيب: بأنها للاختصاص ههنا نحو: * (وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) ونحو: * (ولهم عذاب أليم) * (البقرة: 10، 174، آل عمران: 77، 91، 177، 188، المائدة: 36، التوبة: 61، 79، إبراهيم، 22، النحل: 63، 104، 117، الشورى: 21، 242، الحشر: 15، التغابن: 5) قلت: وقد تستعمل اللام في موضع: على. وقالوا: إن اللام في: * (وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) بمعنى: عليها. ومنها ما قيل: كيف أخرت الصحابة، رضي الله عنهم، الصلاة عن الوقت الفاضل؟ أجيب: بأنهم إنما أخروها عنه طمعا أن يصلوها مع النبي، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لفضل الصلاة معه، فلما خافوا الفوات استعجلوا، فأنكر عليهم النبي، عليه الصلاة والسلام. ومنها ما قيل: روى مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، رأى رجلا لم يغسل عقبه، فقال: (ويل للأعقاب من النار). وكذلك حديث مسلم عن عبد الله بن عمرو الذي مضى ذكره عن قريب، وفيه: (فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال، عليه الصلاة والسلام: ويل للأعقاب من النار). وهذان الحديثان تصريح بأن الوعيد وقع على عدم استيعاب الرجل بالماء، وحديث البخاري يدل على أن المسح لا يجزئ عن الغسل في الرجل، وأجيب: بأنه ترد الأحاديث إلى معنى واحد، ويكون معنى قوله: (لم يمسها الماء)، أي: بالغسل، وإن مسها بالمسح فيكون الوعيد وقع على