عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٢٩١
آدم كقوله تعالى * (فتمثل لها بشرا سويا) * وقد كان جبريل عليه السلام يتمثل بصورة دحية ولم يره النبي عليه السلام في صورته التي خلق عليها غير مرتين. فإن قلت لو كان جبريل عليه السلام متمثلا بصورة دحية في ذلك الوقت لكان النبي عليه السلام عرفه من أول الأمر ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال قلت من ادعى أن جبريل ما يتمثل إلا بصورة دحية فقط فعليه البيان على أن الذي ذكرنا من الروايات أن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة لكنه غير معروف لديهم يرد عليه. فإن قلت وقع في رواية النسائي من طريق أبي فروة في آخر الحديث وأنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي قلت قوله نزل في صورة دحية الكلبي وهم لأن دحية معروف عندهم وقد قال عمر رضي الله عنه في حديثه ما يعرفه منا أحد وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الإيمان له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي فقال في آخره ' فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم ' حسب وهذه الرواية هي المحفوظة لموافقته باقي الروايات * الحادي عشر قال القرطبي هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة لما تضمن من جملة علة السنة وقال الطيبي لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابه المصابيح وشرح السنة اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا وقال القاضي عياض اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا ومن أعمال الجوارح ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه * الثاني عشر فيه دليل على أن رؤية الله تعالى في الدنيا بالأبصار غير واقعة فإن قلت فالنبي صلى الله عليه وسلم قد رآه قلت قال بعضهم وأما النبي صلى الله عليه وسلم فذاك لدليل آخر قلت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل لم يكن في دار الدنيا بل كانت في الملكوت العليا والدنيا لا تطلق عليها والدليل الصريح على عدم وقوع رؤية الله تعالى بالأبصار في الدنيا ما رواه مسلم من حديث أبي أمامة قال عليه السلام ' واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ' وأما الرؤية في الآخرة فمذهب أهل الحق أنها واقعة بالأبصار. فإن قلت الرؤية يشترط فيها خروج شعاع وانطباع صورة المرئي في الحدقة والمواجهة والمقابلة ورفع الحجب فكيف يجوز ذلك على الله سبحانه وتعالى قلت هذه الشروط للرؤيا عادة في الدنيا وأما في الآخرة فيجوز أن يكون الله تعالى مرئيا لنا إذ هي حالة يخلقها الله تعالى في الحاسة فتحصل بدون هذه الشروط ولهذا جوز الأشاعرة أن يرى أعمى الصين بقعة أندلس وقد ادعى بعض غلات الصوفية جواز رؤية الله تعالى بالأبصار في دار الدنيا وقال في قوله ' فإن لم تكن تراه ' إشارة إلى مقام المحو والفناء وتقديره فإن لم تصر شيئا وفنيت عن نفسك حتى كأنك ليس بموجود فإنك حينئذ تراه. قلت هذا تأويل فاسد بدليل رواية كهمس فإن لفظها ' فإنك أن لا تراه فإنه يراك ' فسلط النفي على الرؤية لا على الكون وكذلك يبطل تأويلهم رواية أبي فروة ' فإن لم تراه فإنه يراك ' ورد عليهم بعضهم بقوله لو كان المراد ما زعموا لكان قوله ' تراه ' نحذوف الألف لأنه يصير مجزوما لكونه على تأويلهم جواب الشرط ولم يجيء حذف الألف في شيء من طرق هذا الحديث وهذا الجواب لا يقطع به شغبهم لأن لهم أن يقولوا الجزاء جملة حذف صدرها تقديره فأنت تراه والجزم في الجملة لا يظهر والمقدر كالملفوظ قوله ' متى الساعة ' قال القرطبي المقصود من هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة لأنهم كانوا قد أكثروا السؤال عنها كما ورد في كثير من الآيات والحديث فلما حصل الجواب بما ذكر حصل اليأس من معرفتها بخلاف الأسئلة الماضية فإن المراد بها استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بها وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى ابن مريم وجبريل عليهما السلام أيضا لكن كان عيسى سائلا وجبريل مسؤولا قال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا مالك ابن مغول عن إسماعيل بن رجاء عن الشعبي قال ' سأل عيسى ابن مريم جبريل عليه السلام عن الساعة قال فانتفض بأجنحته وقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ' قوله ' جاء يعلم الناس دينهم ' أي قواعد دينهم وكلياتها وقال ابن المنير فيه دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما لأن جبريل عليه السلام لم يصدر منه سوى السؤال ومع ذلك فقد سماه معلما وقد اشتهر قولهم. السؤال نصف العلم (الأسئلة والأجوبة) منها ما قيل ما سبب ورود هذا الحديث وأجيب بأن سببه ما رواه مسلم من رواية عمارة بن القعقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ' سلوني فهابوه أن يسألوه فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال يا رسول الله
(٢٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 286 287 288 289 290 291 292 293 294 295 296 ... » »»