عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٢٥٧
(من) مبتدأ، و (هذه) خبره، والجملة مقول القول. قوله: (قالت) أي: عائشة فعل وفاعل. قوله: (فلانة) مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي فلانة أي: الحولاء الأسدية. (تذكر) بفتح التاء المثناة من فوق، فعل مضارع للمؤنث، وفاعله عائشة، رضي الله عنها، ويروى: يذكر، بالياء آخر الحروف المضمومة على فعل ما لم يسم فاعله. وقوله: (من صلاتها) في محل الرفع مفعول ناب عن الفاعل، والمعنى يذكرون أن صلاتها كثيرة، وفي رواية أحمد عن يحيى القطان: (لا تنام تصلي) وعلى الوجه الأول: هي، في محل النصب على المفعولية. قوله: (مه) مقول القول. قوله: (بما تطيقون)، وفي رواية: (ما تطيقون)، بغير الباء، ومعناه: ما تطيقون الدوام عليه، وإنما قدرنا دوام الفعل لا أصل الفعل لدلالة السياق عليه. قوله: (فوالله) مجرور بواو القسم. قوله: (لا يمل الله)، فعل وفاعل. قوله: (حتى تملوا) أي: حتى أن تملوا، فإن مقدرة، ولهذا نصبت: تملوا. قوله: (أحب الدين) كلام إضافي مرفوع لأنه اسم كان. قوله: (إليه) أي: إلى الله. قوله: (ما داوم عليه صاحبه) في محل النصب، لأنه خبر كان، وصاحبه مرفوع بداوم أو كلمة: ما، للمدة. والتقدير: مدة دوام صاحبه عليه.
بيان المعاني: قوله: (مه) زجر كما ذكرنا، ولكن يحتمل أن يكون لعائشة، والمراد نهيها عن مدح المرأة، ويحتمل أن يكون المراد النهي عن تكلف عمل لا يطاق به، ولهذا قال بعده: (عليكم من العمل ما تطيقون). وقال ابن التين: لعل عائشة أمنت عليها الفتنة، فلذلك مدحتها في وجهها. قلت: جاء في رواية حماد بن سلمة عن هشام في هذا الحديث ما يدل على أنها إنما ذكرت ذلك بعد أن خرجت المرأة، أخرجها الحسن بن سفيان في مسنده من طريقه، ولفظه: (كانت عندي امرأة، فلما قامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذه يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله هذه فلانة، وهي أعبد أهل المدينة). قوله: (من العمل) يحتمل أن يريد به صلاة الليل، لوروده على سببه، ويحتمل أن يحمل على جميع الأعمال، قاله الباجي قوله: (بما تطيقون) قال القاضي: الندب إلى تكلف ما لنا به طاقة، ويحتمل النهي عن تكلف ما لا نطيق، والأمر بالاقتصار على ما نطيق. قال: وهو أنسب للسياق. قوله: (عليكم من العمل بما تطيقون) فيه عدول عن خطاب النساء إلى خطاب الرجال، وكان الخطاب للنساء فيقتضي أن يقال: عليكن، ولكن لما طلب تعميم الحكم لجميع الأمة غلب الذكور على الإناث في الذكر. قوله: (فوالله لا يمل الله حتى تملوا)، فيه المشاكلة والازدواج، وهو: أن يكون إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفت معناها، كما قال تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) * (البقرة: 194) معناه: فجازوه على اعتدائه، فسماه اعتداء، وهو عدل لتزدوج اللفظة الثانية مع الأولى، ومنه قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) وقال الشاعر، وهو عمر بن كلثوم:
* إلا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا * أراد: فنجازيه على فعله، فسماه جهلا، والجهل لا يفخر به ذو عقل، ولكنه على الوجه الذي ذكرناه. والحاصل أن الملال لا يجوز على الله تعالى، ولا يدخل تحت صفاته لأنه ترك الشيء استثقالا وكراهية له بعد حرص ومحبة فيه، وهو من صفات المخلوق، فلا بد من تأويل. واختلف العلماء فيه، فقال الخطابي: معناه أنه لا يترك الثواب على العمل ما لم يذكر العمل، وذلك أن من مل شيئا تركه، فكنى عن الترك بالملال الذي هو سبب الترك، وقال ابن قتيبة: معناه أنه لا يمل إذا مللتم. قال : ومثاله قولهم في البليغ: فلان لا ينقطع حتى تنقطع خصومه، معناه لا ينقطع إذا انقطعت خصومه، ولو كان لم يكن له فضل على غيره. وقال بعضهم: ومعناه أن الله لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم قبل ذلك، فلا تكلفوا ما لا تطيقون من العمل، كنى بالملال عنه لأن من تناهت قوته عن أمر، وعجز عن فعله مله وتركه. وقال التيمي: معناه أن الله لا يمل أبدا مللتم أنتم أو لم تملوا، نحو قولهم: لا أكلمك حتى يشيب الغراب. ولا يصح التشبيه، لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة، بخلاف ملل العباد. وحكى الماوردي أن: حتى، ههنا بمعنى: حين، أو بمعنى: الواو، وهذا ضعيف جدا.
بيان استنباط الأحكام: الأول: فيه دلالة على استعمال المجاز، وهو إطلاق الملل على الله تعالى. الثاني: فيه جواز الحلف من غير استحلاف، وأنه لا كراهة فيه إذا كان فيه تفخيم أمر، أو حث على طاعة، أو تنفير عن محذور ونحوه، وقال أصحاب الشافعي: يكره اليمين إلا في مواضع: منها ما ذكرنا. ومنها: إذا كانت في دعوى فلا تكره إذا كان صادقا. الثالث:
(٢٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 ... » »»