أمره به، وفائدة العدول عن التصريح دعوى اليقين والتعويل على شهادة العقل. وقال بعضهم: وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إنهم مجتهدون، والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منهم أن الآمر له ذلك الرئيس. قلت: خذ كلام الكرماني، وقلب معناه لأن الكرماني جعل قوله: فإن من اشتهر بطاعة رئيس إلى آخره علة لقوله: فهم منه أن الرسول، عليه السلام، هو الآمر له، وهذا القائل أوقع هذه العلة حاملا وداعيا، وهو عكس المقصود، وقوله أيضا: من حيث إنهم مجتهدون، لا دخل له في الكلام، لأن الحيثية تقع قيدا، وهذا القيد غير محتاج إليه ههنا، لأنا قلنا: إن الصحابي إذا قال: أمرت معناه: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حيث إنه هو الآمر بينهم وهو المشرع، وليس المعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إني مجتهد، وهذا كلام في غاية السقوط. قوله: (أقاتل الناس): إنما ذكر باب المفاعلة التي وضعت لمشاركة الاثنين، لأن الدين إنما ظهر بالجهاد، والجهاد لا يكون إلا بين اثنين، والألف واللام في: الناس، للجنس يدخل فيه أهل الكتاب الملتزمين لأداء الجزية. قلت: هؤلاء قد خرجوا بدليل آخر مثل * (حتى يعطوا الجزية) * (التوبة: 29) ونحوه، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: (أمرت أن أقاتل المشركين). قال الكرماني: والناس قالوا: أريد به عبدة الأوثان دون أهل الكتاب، لأن القتال يسقط عنهم بقبول الجزية. قلت: فعلى هذا تكون اللام للعهد، ولا عهد إلا في الخارج، والتحقيق ما قلنا، ولهذا قال الطيبي: هو من العام الذي خص منه البعض، لأن القصد الأولي من هذا الأمر حصول هذا المطلوب، لقوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) فإذا تخلف منه أحد في بعض الصور لعارض لا يقدح في عمومه، ألا ترى أن عبدة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط المقاتلة وتثبت العصمة؟. قال: ويجوز أن يعبر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عن إعلاء كلمة الله تعالى، وإذعان المخالفين، فيحصل في بعضهم بذلك، وفي بعضهم بالجزية، وفي الآخرين بالمهادنة. قال: وأيضا الاحتمال قائم في أن ضرب الجزية كان بعد هذا القول. قلت: بل الظاهر أن الحديث المذكور متقدم على مشروعية أخذ الجزية وسقوط القتال بها، فحينئذ تكون اللام للجنس كما ذكرنا، وأيضا: المراد من وضع الجزية أن يضطروا إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فيكون التقدير: حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، ولكنه اكتفى بما هو المقصود الأصلي من خلق الخلائق، وهو قوله عز وجل: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) أو نقول: إن المقصود هو القتال، أو ما يقوم مقامه، وهو: أخذ الجزية، أو المقصود هو الإسلام منهم، أو ما يقوم مقامه في دفع القتال وهو إعطاء الجزية، وكل هذه التأويلات لأجل ما ثبت بالإجماع سقوط القتال بالجزية فافهم. قوله: (فإذا فعلوا ذلك) قد قلنا إن ذلك مفعول فعلوا، فإن قلت: المشار إليه بعضه قول، فكيف إطلاق الفعل عليه؟ قلت: إما باعتبار أنه عمل اللسان وإما على سبيل التغليب للاثنين على الواحد. قوله: (وحسابهم على الله) على سبيل التشبيه، أي هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع، وذلك أن لفظة: على مشعرة بالإيجاب في عرف الاستعمال، ولا يجب على الله شيء، وكأن الأصل فيه أن يقال: وحسابهم الله أو إلى الله، وأما عند المعتزلة، فهو ظاهر لأنهم يقولون بوجوب الحساب عقلا، والمعنى: أن أمور سرائرهم إلى الله تعالى، وأما نحن فنحكم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظاهر أقوالهم وأفعالهم، أو معناه: هذا القتال وهذه العصمة إنما هو من الأحكام الدنيوية، وهو مما يتعلق بنا، وأما الأمور الأخروية من دخول الجنة والنار والثواب والعقاب وكميتهما وكيفيتهما فهو مفوض إلى الله تعالى لا دخل لنا فيها.
(بيان استنباط الأحكام) وهو على وجوه. الأول: قال النووي: يستدل بالحديث على أن تارك الصلاة عمدا معتقدا وجوبها يقتل، وعليه الجمهور. قلت: لا يصح هذا الاستدلال لأن المأمور به هو القتال، ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل، لأن باب المفاعلة يستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولا كذلك القتل فافهم. ثم اختلف أصحاب الشافعي: هل يقتل على الفور أم يمهل ثلاثة أيام؟ الأصح الأول، والصحيح أنه يقتل بترك صلاة واحدة إذا خرج وقت الضرورة لها، وأنه يقتل بالسيف، وهو مقتول حدا. وقال أحمد في رواية أكثر أصحابه عنه: تارك الصلاة عمدا يكفر ويخرج من الملة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، فعلى هذا له حكم المرتد، فلا يغسل ولا يصلى عليه، وتبين منه امرأته. وقال أبو حنيفة، والمزني: يحبس إلى أن يحدث توبة ولا يقتل، ويلزمهم أنهم احتجوا به على قتل تارك الصلاة عمدا، ولم يقولوا بقتل مانع الزكاة، مع أن