عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٧٧
الرجل كان كثير الحياء، وكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فتوعظه أخوه على مباشرة الحياء، وعاتبه على ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم، دعه أي: اتركه على هذا الخلق الحسن لأن الحياء خير له في ذلك، بل في كل الأوقات وكل الحالات، يدل على ذلك، ما جاء في الرواية الأخرى: (الحياء لا يأتي إلا بخير). وفي رواية أخرى: (الحياء خير كله). فإن قلت: ما وجه التأكيد بأن في قوله: (فإن الحياء من الإيمان) وإنما يؤكد بأن ونحوها إذا كان المخاطب منكرا أو شاكا؟ قلت: الظاهر أن المخاطب كان شاكا بل كان منكرا له، لأنه منعه من ذلك، فلو كان معترفا بأنه من الإيمان لما منعه من ذلك، ولئن سلمنا أنه لم يكن منكرا لكنه جعل كالمنكر لظهور أمارات الإنكار عليه، ويجوز أن يكون هذا من باب التأكيد لدفع إنكار غير المخاطب، ويجوز أن يكون التأكيد من جهة أن القصة في نفسها مما يجب أن يهتم بها ويؤكد عليها، وإن لم يكن ثمة إنكار أو شك من أحد فافهم. وقال بعضهم: والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد. قلت: هذا كلام من لم يذق شيئا ما من علم المعاني، فإن الخطاب لمثل هذا الناهي الذي ذكره لا يحتاج إلى تأكيد، لأنه ليس بمنكر ولا متردد، وإنما هو خالي الذهن، وهو لا يحتاج إلى التأكيد فإنه كما يسمع الكلام ينتقش في ذهنه على ما عرف في كتب المعاني والبيان. فإن قلت: ما معنى الحياء؟ قلت: قد فسرته فيما مضى عند قوله: (والحياء شعبة من الإيمان) وقال التيمي: الحياء الاستحياء، وهو ترك الشيء لدهشة تلحقك عنده، قال تعالى: * (ويستحيون نساءكم) * (البقرة: 49، والأعراف: 141، وإبراهيم: 6) أي: يتركون، قال: وأظن أن الحياة منه لأنه البقاء من الشخص، وقال الكرماني: ليس هو ترك الشيء، بل هو دهشة تكون سببا لترك الشيء قلت: التحقيق أن الحياء تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم، وليس هو بدهشة ولا ترك الشيء، وإنما ترك الشيء من لوازمه. فإن قلت: يمنع ما قلت إسناده إلى الله تعالى في قوله: * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) * (البقرة: 26) قلت: هذا من باب المشاكلة، وهي أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، فلما قال المنافقون: أما يستحي رب محمد يذكر الذباب والعنكبوت في كتابه، أجيبوا: بأن الله لا يستحي، والمراد: لا يترك ضرب المثل بهذه الأشياء، فأطلق عليه الاستحياء على سبيل المشاكلة، كما في قوله: * (فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق) * (الأحزاب: 53) ومن هذا القبيل قوله، عليه السلام: (إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا)، وهذا جار على سبيل الاستعارة التبعية التمثيلية، شبه ترك الله تعالى تخييب العبد ورد يديه صفرا بترك الكريم رد المحتاج حياء، فقيل: ترك الله رد المحتاج حياء، كما قيل: ترك الكريم رد المحتاج حياء، فأطلق الحياء ثمة كما أطلق الحياء ههنا، فذلك استعير ترك المستحي لترك ضرب المثل، ثم نفى عنه. فإن قلت: ما معنى: من، في قوله: من الإيمان؟ قلت: معناه التبعيض، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السالف: (الحياء شعبة من الإيمان). فإن قلت: قد علم ذلك منه، فما فائدة التكرار؟ قلت: كان المقصود ثمة بيان أمور الإيمان، وأنه من جملتها، فذكر ذلك بالتبعية وبالعرض، وههنا ذكره بالقصد وبالذات مع فائدة مغايرة الطريق. فإن قلت: إذا كان الحياء بعض الإيمان فإن انتفى الحياء انتفى بعض الإيمان، وإذا انتفى بعض الإيمان انتفى حقيقة الإيمان، فينتج من هذه المقدمات انتفاء الإيمان عمن لم يستح، وانتفاء الإيمان كفر. قلت: لا نسلم صدق كون الحياء من حقيقة لإيمان، لأن المعنى: فإن الحياء من مكملات الإيمان، ونفي الكمال لا يستلزم نفي الحقيقة. نعم الإشكال قائم على قول من يقول الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وهذا لم يقل به المحققون، كما ذكرنا فيما مضى، قلت: من فوائده الحض على الامتناع من قبائح الأمور ورذائلها، وكل ما يستحى من فعله، والدلالة على أن النصيحة إنما تعد إذا وقعت موقعها، والتنبيه على زجر مثل هذا الناصح.
17 ((باب * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) *)) الكلام فيه على وجوه. الأول: أن قوله: باب، ينبغي أن لا يعرب، لأنه كتعديد الأسماء من غير تركيب، والإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب. وقال بعضهم: باب هو منون في الرواية، والتقدير: باب في تفسير قوله تعالى: * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) * (التوبة: 5) وتجوز الإضافة، أي باب تفسير قوله، وإنما جعل الحديث تفسيرا للآية لأن المراد بالتوبة في الآية الرجوع
(١٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 182 ... » »»