(إنا لسنا كهيأتك) أرادوا بهذا الكلام طلب الإذن في الزيادة من العبادة، والرغبة في الخير يقولون: أنت مغفور لك لا تحتاج إلى عمل، ومع هذا أنت مواظب على الأعمال، فكيف بنا وذنوبنا كثيرة، فرد عليهم، وقال: أنا أولى بالعمل لأني أعلمكم وأخشاكم. قوله: (إن الله قد غفر لك) اقتباس من قوله تعالى: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * (الفتح: 2) وقد عرفت ما في هذا التركيب من المؤكدات. فإن قلت: النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الكبائر والصغائر فما ذنبه الذي غفر له؟ قلت: المراد منه ترك الأولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل، وترك الأفضل كأنه ذنب لجلالة قدر الأنبياء، عليهم السلام، ويقال: المراد منه ذنب أمته. قوله: (اتقاكم) إشارة إلى كمال القوة العملية، وأعلمكم إلى كمال القوة العلمية ولما كان، عليه السلام، جامعا لأقسام التقوى حاويا لأقسام العلوم، ما خصص التقوى ولا العلم، وأطلق، وهذا قريب مما قال علماء المعاني، قد يقصد بالحذف إفادة العموم والاستغراق، ويعلم منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه أفضل من كل واحد وأكرم عند الله وأكمل، لأن كمال الإنسان منحصر في الحكمتين العلمية والعملية، وهو الذي بلغ الدرجة العليا والمرتبة القصوى منهما، يجوز أن يكون أفضل وأكرم وأكمل من الجميع حيث قال: (اتقاكم وأعلمكم) خطابا للجميع.
(بيان استنباط الفوائد) وهو على وجوه. الأول: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من: رفع الدرجات ومحو الخطيئات، لأنه عليه السلام، لم ينكر عليهم استدلالهم من هذه الجهة، بل من جهة أخرى. الثاني: أن العبادة الأولى فيها القصد وملازمة ما يمكن الدوام عليه. الثالث: أن الرجل الصالح ينبغي أن لا يترك الاجتهاد في العمل إعتمادا على صلاحه. الرابع: أن الرجل يجوز له الإخبار بفضيلته إذا دعت إلى ذلك حاجة. الخامس: أنه ينبغي أن يحرص على كتمانها فإنه يخاف من إشاعتها زوالها. السادس: فيه جواز الغضب عند رد أمر الشرع ونفوذ الحكم في حال الغضب والتغير، السابع: فيه دليل على رفق النبي صلى الله عليه وسلم، بأمته، وأن الدين يسر، وأن الشريعة حنيفية سمحة. الثامن: فيه الإشارة إلى شدة رغبة الصحابة في العبادة، وطلبهم الازدياد من الخير.
14 ((باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان)) أي: هذا باب من كره، ويجوز في باب التنوين والوقف والإضافة إلى الجملة، وعلى كل التقدير قوله: من، مبتدأ وخبره قوله: من الإيمان، و: أن في الموضعين مصدرية، وكذلك كلمة: ما ومن، موصولة، وكره أن يعود: صلتها، وفيه حذف، تقدير الكلام: باب كراهة من كره العود في الكفر ككراهة الإلقاء في النار من شعب الإيمان. والكراهة ضد الإرادة والرضى، والعود بمعنى الصيرورة، وقال الكرماني: ضمن فيه معنى الاستقرار حتى عدى بفي، ونحوه قوله تعالى: * (أو لتعودن في ملتنا) * (الأعراف: 88) قلت: في، تجيء بمعنى: إلى، كما في قوله تعالى: * (فردوا أيديهم في أفواههم) * (إبراهيم: 9).
وجه المناسبة بين البابين: أن في الباب الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أصحابه بعمل كانوا يسألونه أن يعملوا بأكثر من ذلك، وذلك لوجدانهم حلاوة الإيمان من شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الباب أيضا يتضمن هذا المعنى لأن فيه؛ من أحب الله ورسوله أكثر مما يحب غير الله ورسوله فإنه يفوز بحلاوة الإيمان.
21 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار.
(راجع الحديث رقم 16).
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، لأن الحديث مشتمل على ثلاثة أشياء، وفيما مضى بوبه على جزء منه، وههنا بوب على جزء آخر، لأن عادته قد جرت في التبويب على ما يستفاد من الحديث، ولا يقال: إنه تكرار، لأن بينه وبين ما سبق تفاوت