عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٦٣
هرب، والمفر بكسر الفاء موضع الفرار، والفتن جمع فتنة، وأصل الفتنة الاختبار، يقال: فتنت الفضة على النار، إذا خلصتها، ثم استعملت فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم كثر استعماله في أبواب المكروه، فجاء مرة بمعنى الكفر، كقوله تعالى: * (والفتنة أكبر من القتل) * (البقرة: 217) ويجيء للإثم، كقوله تعالى: * (ألا في الفتنة سقطوا) * (التوبة: 49) ويكون بمعنى الإحراق، كقوله تعالى: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) * (البروج: 10) أي: حرقوهم، ويجيء بمعنى الصرف عن الشيء، كقوله تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك) * (الإسراء: 73).
(بيان الإعراب) قوله: (يوشك) من أفعال المقاربة عند النحاة وضع لدنو الخبر أخذا فيه، وهو مثل: كاد وعسى في الاستعمال، فيجوز: أوشك زيد يجيء، وأن يجيء، وأوشك أن يجيء زيد على الأوجه الثلاثة، وخبره يكون فعلا مضارعا مقرونا بأن وقد يسند إلى: أن، كما قلنا في الأوجه الثلاثة، والحديث من هذا القبيل حيث أسند يوشك إلى أن، والفعل المضارع، فسد ذلك مسد اسمه وخبره، ومثله قول الشاعر:
* يوشك أن يبلغ منتهى الأجل * فالبر لازم برجا ووجل * قوله: (خير) يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى الابتداء وخبره، قوله: (غنم)، ويكون: في يكون، ضمير الشأن لأنه كلام تضمن تحذيرا وتعظيما لما يتوقع، وأما النصب فعلى كونه خبر يكون مقدما على اسمه، وهو قوله: (غنم). ولا يضركون غنم نكرة لأنها وصفت بقوله: (يتبع بها) وقد روى غنما بالنصب وهو ظاهر، والأشهر في الرواية نصب خبر، وفي رواية الأصيلي بالرفع، والضمير في: بها، يرجع إلى الغنم، وقد ذكرنا أنه اسم جنس يجوز تأنيثه باعتبار معنى الجمع، قوله: (شعف الجبال) كلام إضافي منصوب على أنه مفعول يتبع؛ قوله: (ومواقع القطر) أيضا، كلام إضافي منصوب عطفا على شعف الجبال. قوله: (يفر بدينه من الفتن) أي: من فساد ذات البين وغيرها، وقوله: يفر جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير المستتر فيه الذي يرجع إلى المسلم، وهي في محل النصب على الحال، أما من الضمير الذي في يتبع أو من المسلم، ويجوز وقوع الحال من المضاف إليه نحو قوله تعالى: * (فاتبع ملة إبراهيم حنيفا) * (النساء: 125) فإن قلت: إنما يقع الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزأ من المضاف إليه أو في حكمه كما في: رأيت وجه هند قائمة، فإنه يجوز، ولا يجوز قولك: رأيت غلام هند قائمة، والمال ليس بجزء للمسلم. قلت: المال لشدة ملابسته بذي المال كأنه جزء منه، وكذلك الملة ليس بجزء لإبراهيم حقيقة، وإنما هي بمنزلة الجزء منه. ويجوز أن تكون هذه الجملة استئنافية، وهي في الحقيقة جواب سؤال مقدر، ويقدر ذلك بحسب ما يقتضيه المقام، والباء في (بدينه) للسببية، وكلمة: من في قوله: (من الفتن) ابتدائية تقديره: يفر بسبب دينه ومنشأ فراره الدين، ويجوز أن تكون الباء، للمصاحبة كما في قوله تعالى: * (اهبط بسلام) * (هود: 48) أي: معه.
(بيان استنباط الفوائد): وهو على وجوه. الأول: فيه فضل العزلة في أيام الفتن إلا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها، إما فرض عين وإما فرض كفاية بحسب الحال والإمكان، وأما في غير أيام الفتنة فاختلف العلماء في العزلة والاختلاط أيهما أفضل؟ قال النووي: مذهب الشافعي والأكثرين إلى تفضيل الخلطة لما فيها من اكتساب الفوائد، وشهود شعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم ولو بعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وإعانة المحتاج، وحضور جماعاتهم وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد، فإن كان صاحب علم أو زهد تأكد فضل اختلاطه. وذهب آخرون إلى تفضيل العزلة لما فيها من السلامة المحققة، لكن بشرط أن يكون عارفا بوظائف العبادة التي تلزمه وما يكلف به، قال: والمختار تفضيل الخلطة لمن لا يغلب على ظنه الوقوع في المعاصي. وقال الكرماني: المختار في عصرنا تفضيل الانعزال لندور خلو المحافل عن المعاصي. قلت: أنا موافق له فيما قال، فإن الاختلاط مع الناس في هذا الزمان لا يجلب إلا الشرور. الثاني: فيه الاحتراز عن الفتن، وقد خرجت جماعة من السلف عن أوطانهم وتغربوا خوفا من الفتنة، وقد خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة في فتنة عثمان رضي الله عنه. الثالث: فيه دلالة على فضيلة الغنم واقتنائها على ما نقول عن قريب إن شاء الله تعالى. الرابع: فيه إخبار بأنه يكون في آخر الزمان فتن وفساد بين الناس، وهذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم.
(١٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 158 159 160 161 162 163 164 165 166 167 168 ... » »»