عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٥٩
من كون البيعة يوم فتح مكة أن تكون البيعة المذكورة هي إياها غاية الأمر أن عبادة قد أخبر أنه وقعت بيعة أخرى يوم فتح مكة، وكان هو فيمن بايعوه عليه السلام.
والثالث: أن ما وقع في الصحيحين من طريق الصنابحي عن عبادة، رضي الله عنه، قال: (إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا). الحديث يدل على أن المبايعة المذكورة في الحديث المذكور كانت ليلة العقبة، وذلك لأنه أخبر فيه أنه كان من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وأخبر أنهم بايعوه، ولم يثبت لنا أن أحدا بايعه عليه السلام، قبلهم، فدل على أن بيعتهم أول المبايعات، وأن الحديث المذكور كان ليلة العقبة. وأما احتجاج هذا القائل في دعواه بما وقع في الأحاديث التي ذكرها من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات المذكورة على ما ذكره فلا يتم لأنه يحتمل أن عبادة لما حضر البيعات مع النبي زسمع منه قراءة الآيات المذكورة في البيعات التي وقعت بعد الحديبية أو بعد فتح مكة، ذكرها في حديثه، بخلاف حديث البيعة الأولى فإنه ليس فيه قراءة شيء من الآيات. وتمسك هذا القائل أيضا بما زاد في رواية الصنابحي في الحديث المذكور، ولا ننتهب على أن هذه البيعة متأخرة، لأن الجهاد عند بيعة العقبة لم يكن فرضا، والمراد بالانتهاب: ما يقع بعد القتال في المغانم، وهذا استدلال فاسد، لأن الانتهاب أعم من أن يكون في المغانم وغيرها، وتخصيصه بالمغانم تحكم ومخالف للغة.
(استنباط الأحكام): وهو على وجوه. الأول: أن آخر الحديث يدل على أن الله لا يجب عليه عقاب عاص، وإذا لم يجب عليه هذا لا يجب عليه ثواب مطيع أصلا، إذ لا قائل بالفصل. الثاني: أن معنى قوله: (فهو إلى الله) أي: حكمه من الأجر والعقاب مفوض إلى الله تعالى، وهذا يدل على أن من مات من أهل الكبائر قبل التوبة، إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة أول مرة، وإن شاء عذبه في النار ثم يدخله الجنة وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقالت المعتزلة: صاحب الكبيرة إذا مات بغير التوبة لا يعفى عنه فيخلد في النار، وهذا الحديث حجة عليهم، لأنهم يوجبون العقاب على الكبائر قبل التوبة وبعدها العفو عنها. الثالث: قال المازري: فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب. الرابع: قال الطيبي: فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد وبالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه. الخامس: فيه أن الحدود كفارات، ويؤيد ذلك ما رواه من الصحابة غير واحد منهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرج حديثه الترمذي، وصححه الحاكم وفيه: (ومن أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم أن يثني بالعقوبة على عبده في الآخرة)، ومنهم: أبو تميمة الجهني أخرج حديثه الطبراني بإسناد حسن باللفظ المذكور، ومنهم: خزيمة بن ثابت، أخرج حديثه أحمد بإسناد حسن ولفظه: (من أصاب ذنبا أقيم الحد على ذلك الذنب فهو كفارته). ومنهم: ابن عمر، أخرج حديثه الطبراني مرفوعا: (ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب).
(الأسئلة والأجوبة): منها ما قيل: قتل غير الأولاد أيضا منهي إذا كان بغير حق، فتخصيصه بالذكر يشعر بأن غيره ليس منهيا. وأجيب: بأن هذا مفهوم اللقب وهو مردود على أنه لو كان من باب المفهومات المعتبرة المقبولة فلا حكم له ههنا، لأن اعتبار جميع المفاهيم، إنما هو إذا لم يكن خرج مخرج الأغلب، وههنا هو كذلك، لأنهم كانوا يقتلون الأولاد غالبا خشية الإملاق، فخصص الأولاد بالذكر لأن الغالب كان كذلك. قال التيمي: خص القتل بالأولاد لمعنيين: أحدهما: أن قتلهم هو أكبر من قتل غيرهم، وهو الوأد، وهو أشنع القتل. وثانيهما: أنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر. ومنها ما قيل: ما معنى الإطناب في قوله: ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، حيث قيل: تأتوا ووصف البهتان بالافتراء، والافتراء والبهتان من واد واحد وزيد عليه: بين أيديكم وأرجلكم، وهلا اقتصر على: ولا تبهتوا الناس؟ وأجيب: بأن معناه مزيد التقرير وتصوير بشاعة هذا الفعل. ومنها ما قيل: فما معنى إضافته إلى الأيدي والأرجل؟ وأجيب: بأن معناه: ولا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم، واليد والرجل كنايتان عن الذات، لأن معظم الأفعال يقع بهما، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال له: هذا بما كسبت يداك، أو معناه: ولا تغشوه من ضمائركم، لأن المفتري إذا أراد اختلاق قول فإنه يقدره ويقرره أولا في ضميره، ومنشأ ذلك ما بين الأيدي والأرجل من الإنسان
(١٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 164 ... » »»