عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٥٢
قلت: إذا كان حب الأنصار آية الإيمان فبغضهم آية عدمه، لأن حكم نقيض الشيء نقيض حكم الشيء، فما الفائدة في ذكر (آية النفاق بغض الأنصار)؟ قلت: هذا التقرير ممنوع، ولئن سلمنا فالفائدة في ذكره التصريح به والتأكيد عليه، والمقام يقتضي ذلك، لأن المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس، والإيثار على أنفسهم، والإيواء والنصر وغير ذلك، قالوا: وهذا جار في أعيان الصحابة: كالخلفاء وبقية العشرة والمهاجرين، بل في كل الصحابة، إذ كل واحد منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين، وأثرحسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق، ويدل عليه ما روي مرفوعا في فضل أصحابه كلهم: (من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم). وقال القرطبي: وأما من أبغض، والعياذ بالله، أحدا منهم، من غير تلك الجهة، لأمر طار من حدث وقع لمخالفة غرض، أو لضرر ونحوه، لم يصر بذلك منافقا ولا كافرا، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام، فإما أن يقال: كلهم مصيب، أو المصيب واحد والمخطىء معذور مع أنه مخاطب بما يراه ويظنه، فمن وقع له بغض في أحد منهم، والعياذ بالله، لشيء من ذلك، فهو عاص تجب عليه التوبة ومجاهدة نفسه بذكر سوابقهم وفضائلهم وما لهم على كل من بعدهم من الحقوق، إذ لم يصل أحد من بعدهم لشيء من الدين والدنيا إلا بهم وبسببهم، قال الله تعالى: * (والذين جاؤوا من بعدهم) * (الحشر: 10) الآية، وقد أجاب بعضهم عن الحصر المذكور بأن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس، ثم قال: وإن أخذ من طريق المفهوم، فهو مفهوم لقب لا عبرة به. قلت: هذا الحصر يفيد حصر المبتدأ على الخبر، ويفيد حصر الخبر على المبتدأ، وهو نظير قولك: الضاحك الكاتب، فإن معناه حصر الضاحك على الكاتب، وحصر الكاتب على الضاحك، وكيف يدعي فيه الاطراد دون الانعكاس، فإن آية الإيمان كما هي محصورة على حب الأنصار كذلك حب الأنصار محصور على آية الإيمان بمقتضى هذا الحصر، ولكن قد قلنا: إن هذا حصر ادعائي، فلا يلزم منه المحذور.
(الأسئلة والأجوبة) منها ما قيل: الأنصار جمع قلة، فلا يكون لما فوق العشرة لكنهم كانوا أضعاف الآلاف؟ وأجيب: بأن القلة والكثرة إنما تعتبران في نكرات الجموع، وأما في المعارف فلا فرق بينهما. ومنها ما قيل: المطابقة تقتضي أن يقابل الإيمان بالكفر، بأن يقال: آية الكفر كذا، فلم عدل عنه؟ وأجيب: بأن البحث في الذين ظاهرهم الإيمان، وهذا البيان ما يتميز به المؤمن الظاهري عن المؤمن الحقيقي، فلو قيل: آية الكفر بغضهم، لا يصح، إذ هو ليس بكافر ظاهرا. ومنها ما قيل: هل يقتضي ظاهر الحديث أن من لم يحبهم لا يكون مؤمنا؟ وأجيب: بأنه لا يقتضي إذ لا يلزم من عدم العلامة عدم ما له العلامة، أو المراد: كمال الإيمان. ومنها ما قيل: هل يلزم منه أن من أبغضهم يكون منافقا، وإن كان مصدقا بقلبه؟ وأجيب: بأن المقصود بغضهم من جهة أنهم أنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن اجتماعه مع التصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
11 ((باب)) كذا وقع: باب، في كل النسخ، وغالب الروايات بلا ترجمة، وسقط عند الأصيلي بالكلية، فالوجه على عدمه هو: أن الحديث الذي فيه من جملة الترجمة التي قبله؛ وعلى وجوده هو: أنه لما ذكر الأنصار في الباب الذي قبله أشار في هذا الباب إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة، لما توافقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، عند عقبة منى في الموسم، ولأن الأبواب الماضية كلها في أمور الدين، ومن جملتها كان حب الأنصار، والنقباء كانوا منهم، ولمبايعتهم أثر عظيم في إعلاء كلمة الدين، فلا جرم ذكرهم عقيب الأنصار، ولما لم يكن له ترجمة على الخصوص، وكان فيه تعلق بما قبله، فصل بينهما بقوله: باب، كما يفعل بمثل هذا في مصنفات المصنفين بقولهم: فصل كذا مجردا. فإن قلت: أهو معرب أم لا؟ قلت: كيف يكون معربا، والإعراب لا يكون إلا بالتركيب، وإنما حكمه حكم الأسامي التي تعد بلا تركيب بعضها ببعض. فافهم.
(١٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 147 148 149 150 151 152 153 154 155 156 157 ... » »»