عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٠٥
على رأي كما مر وركن الإيمان حالة الاختيار على رأي كما مر فلا يدل كفرهم على أن هذا التصديق غير كاف ولهذا لو حصل التصديق لأحد ومات من ساعته فجأة قبل الإقرار يكون مؤمنا إجماعا * وبقي هنا شيء آخر وهو أن التصديق مأمور به فيكون فعلا اختياريا والتصديق المقابل للتصور ليس باختياري كما بين في موضعه فينبغي أن يجعل التصديق فعلا من أفعال النفس الاختيارية أو يقيد بأن يكون حصوله اختيارا بمباشرة سببه المعد لحصوله كما قيد المعترض التصديق اللغوي بذلك إلا أنه يلزم على هذا اختصاص التصديق بأن يكون علما صادرا عن الدليل * إذا عرفت هذا فنقول احتج المحققون بوجوه * منها ما يدل على أن الإيمان هو التصديق ومنها ما يدل على أن الإيمان بالاجتهاديات كاعتقاد كونه عز وجل مرئيا أو غير مرئي ونحوه غير واجب * ومنها ما يدل على صحة إيمان المقلد وعدم اختصاص التصديق بما يكون عن دليل * القسم الأول ثلاثة أوجه * الأول أن الخطاب الذي توجه علينا بلفظ آمنوا بالله إنما هو بلسان العرب ولم تكن العرب تعرف من لفظ الإيمان فيه إلا التصديق والنقل عن التصديق لم يثبت فيه إذ لو ثبت لنقل إلينا تواترا واشتهر المعنى المنقول إليه لتوفر الدواعي على نقله ومعرفة ذلك المعنى لأنه من أكثر الألفاظ دورا على ألسنة المسلمين فلما لم ينقل كذلك عرفنا أنه باق على معنى التصديق * الثاني الآيات الدالة على أن محل الإيمان هو القلب مثل قوله تعالى * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * وقوله تعالى * (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) * ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله واعتذر بأنه لم يقله عن اعتقاد بل عن خوف القتل هلا شققت عن قلبه * فإن قلت لا يلزم من كون محل الإيمان هو القلب كون الإيمان عبارة عن التصديق لجواز كونه عبارة عن المعرفة كما ذهب إليه جهم بن صفوان قلت لا سبيل إلى كونه عبارة عن المعرفة لوجهين الأول أن لفظ الإيمان في خطاب آمنوا بالله مستعمل في لسان العرب في التصديق وأنه غير منقول عنه إلى معنى آخر فلو كان عبارة عن المعرفة للزم صرفه عما يفهم منه عند العرب إلى غيره من غير قرينة وذلك باطل وإلا لجاز مثله في سائر الألفاظ وفيه إبطال اللغات ولزوم تطرق الخلل إلى الدلائل السمعية وارتفاع الوثوق عليها وهذا خلف * الثاني أن أهل الكتاب وفرعون كانوا عارفين بنبوة محمد وموسى عليهما السلام ولم يكونوا مؤمنين لعدم التصديق فتعين كونه عبارة عن التصديق إذ لا قائل بثالث * الوجه الثالث أن الكفر ضد الإيمان ولهذا استعمل في مقابلته قال الله تعالى * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) * والكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما إذ لا تضاد عند تغاير المحلين فثبت أن الإيمان فعل القلب وأنه عبارة عن التصديق لأن ضد التكذيب التصديق * فإن قلت جاز أن يكون حصول التكذيب والتصديق باللسان بدون التصديق القلبي لا وجودا ولا عدما أما وجودا ففي المنافق وأما عدما ففي المكره بالقتل على إجراء كلمة الكفر على لسانه إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان قال الله تعالى * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) * نفي عن المنافقين الإيمان مع التصديق اللساني لعدم التصديق القلبي وقال تعالى * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * أباح للمكره التكذيب باللسان عند وجود التصديق القلبي * القسم الثاني ثمانية أوجه * الأول وهو ما يدل على أن الإقرار باللسان غير داخل فيه ما أشرنا أنه لا يدل وجوده على وجود الإيمان ولا عدمه على عدمه فجعل شرطا لإجراء الأحكام لأن الأصل في الأحكام أن تكون مبنية على الأمور الظاهرة إذا كان أسبابها الحقيقية خفية لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعسر وأن تقام هي مقامها كما في السفر مع المشقة والتقاء الختانين مع الإنزال فكذلك ههنا لما كان التصديق القلبي الذي هو مناط الأحكام الإسلامية أمرا باطنا جعل دليله الظاهر وهو الإقرار بالقلب قائما مقامه لأن الموضوع للدلالة على المعاني الحاصلة في القلب إذا قصد الإعلام بها على ما هو الأصل إنما هي العبارة لا الإشارة والكتابة وأمثالهما فيحكم بإيمان من تلفظ بكلمتي الشهادة سواء تحقق معه التصديق القلبي أو لا ويحكم بكفر من لم يتلفظ بهما مع تمكنه سواء كان معه التصديق القلبي أو لا ومن جعله ركنا فإنما جعله ركنا أيضا لدلالته على التصديق لا لخصوص كونه إقرارا ألا ترى أن الكافر إذا صلى بجماعة يحكم بإسلامه وتجري عليه أحكام أهل الإيمان عند أبي حنيفة وأصحابه خلافا للشافعي لأن الصلاة بالجماعة أيضا جعلت دليلا على تحقق الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا
(١٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 ... » »»