المعتزلة ولم يدخل في الكفر بل وقع في مرتبة بينهما يسمونها منزلة بين المنزلتين وعند الخوارج دخل في الكفر لأن ترك كل واحدة من الطاعات كفر عندهم وعند السلف لم يخرج من الإيمان وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي وهذه أول مسألة نشأت في الاعتزال ونقل عن الشافعي أنه قال الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل فالمخل بالأول وحده منافق وبالثاني وحده كافر وبالثالث وحده فاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة قال الإمام هذا في غاية الصعوبة لأن العمل إذا كان ركنا لا يتحقق الإيمان بدونه فغير المؤمن كيف يخرج من النار ويدخل الجنة قلت قد أجيب عن هذا الإشكال بأن الإيمان في كلام الشارع قد جاء بمعنى أصل الإيمان وهو الذي لا يعتبر فيه كونه مقرونا بالعمل كما في قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث والإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان الحديث وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل وهو المقرون بالعمل كما في حديث وفد عبد القيس أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس والإيمان بهذا المعنى هو المراد بالإيمان المنفي في قوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن الحديث وهكذا كل موضع جاء بمثله فالخلاف في المسألة لفظي لأنه راجع إلى تفسير الإيمان وأنه في أي المعنيين منقول شرعي وفي أيهما مجاز ولا خلاف في المعنى فإن الإيمان المنجي من دخول النار هو الثاني باتفاق جميع المسلمين والإيمان المنجي من الخلود في النار هو الأول باتفاق أهل السنة خلافا للمعتزلة والخوارج ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فالحاصل أن السلف والشافعي إنما جعلوا العمل ركنا من الإيمان بالمعنى الثاني دون الأول وحكموا مع فوات العمل ببقاء الإيمان بالمعنى الأول وبأنه ينجو من النار باعتبار وجوده وإن فات الثاني فبهذا يندفع الإشكال فإن قلت ما ماهية التصديق بالقلب قلت قال الإمام قولا حاصله أن المراد من التصديق الحكم الذهني بيان ذلك أن من قال أن العالم محدث ليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث بل حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا فالحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث له فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو الانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص به واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول * ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم فيكون المراد من التصديق هو هذا الحكم الذهني ويعلم من هذا الكلام أن المراد من التصديق ههنا هو التصديق المقابل للتصور * واعترض عليه صدر الشريعة بأن ذلك غير كاف فإن بعض الكفار كانوا عالمين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) * الآية وفرعون كان عالما برسالة موسى عليه السلام لقوله تعالى حكاية عن خطاب موسى عليه السلام له مشيرا إلى المعجزات التي أوتيها * (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات) * الآية ومع ذلك كانوا كافرين ولو كان ذلك كافيا لكانوا مؤمنين لأن من صدق بقلبه فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام كما هو مروي عن أبي حنيفة وأصح الروايتين عن الأشعري بل المراد به معناه اللغوي وهو أن ينسب الصدق إلى المخبر اختيارا قال وإنما قيدنا بهذا لأنه إن وقع في القلب صدق المخبر ضرورة كما إذا ادعى النبي النبوة وأظهر المعجزة ووقع صدقه في قلب أحد ضرورة من غير أن ينسب الصدق إلى النبي صلى الله عليه وسلم اختيارا لا يقال في اللغة أنه صدقه فعلم أن المراد من التصديق إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر اختيار الذي هو الكلام النفسي ويسمى عقد الإيمان والكفار العالمون برسالة الأنبياء عليهم السلام إنما لم يكونوا مؤمنين لأنهم كذبوا الرسل فهم كافرون لعدم التصديق لهم ولقائل أن يقول التصديق بالمعنى اللغوي عين التصديق المقابل للتصور لأن إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر هو الحكم بثبوت الصدق له وهو عين هذا التصديق وإنما لم يكن الكفار العالمون برسالة الرسل مؤمنين مع حصول التصديق لهم لأن من أنكر منهم رسالتهم أبطل تصديقه القلبي تكذيبه اللساني ومن لم ينكرها أبطله بترك الإقرار اختيارا لأن الإقرار شرط إجراء الأحكام
(١٠٤)