عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٠٣
الكعبي عن جهم أن الإيمان معرفة الله تعالى مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم والفرقة الثانية قالوا أن الإيمان عمل باللسان فقد وهم أيضا فريقان * الأول أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ولكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا لأنها داخلة في مسمى الإيمان وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي * الثاني أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وهو قول الكرامية وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فيثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة * والفرقة الثالثة قالوا أن الإيمان عمل القلب واللسان معا أي في الإيمان الاستدلالي دون الذي بين العبد وبين ربه وقد اختلف هؤلاء على أقوال * الأول أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء وبعض المتكلمين * الثاني أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا وهو قول بشر المريسي وأبي الحسن الأشعري * الثالث أن الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب فإن قلت ما حقيقة المعرفة بالقلب على قول أبي حنيفة رضي الله عنه قلت فسروها بشيئين * الأول بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقادا تقليديا أو كان علما صادرا عن الدليل وهو الأكثر والأصح ولهذا حكموا بصحة إيمان المقلد * الثاني بالعلم الصادر عن الدليل وهو الأقل فلذلك زعموا أن إيمان المقلد غير صحيح * ثم اعلم أن لهؤلاء الفرقة اختلافا في موضع آخر أيضا وهو أن الإقرار باللسان هل هو ركن الإيمان أم شرط له في حق إجراء الأحكام * قال بعضهم هو شرط لذلك حتى أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به من عند الله تعالى فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقر بلسانه وقال حافظ الدين النسفي هو المروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه وإليه ذهب الأشعري في أصح الروايتين وهو قول أبي منصور الماتريدي وقال بعضهم هو ركن لكنه ليس بأصلي له كالتصديق بل هو ركن زائد ولهذا يسقط حالة الإكراه والعجز وقال فخر الإسلام أن كونه ركنا زائدا مذهب الفقهاء وكونه شرطا لإجراء الأحكام مذهب المتكلمين * والفرقة الرابعة قالوا أن الإيمان فعل القلب واللسان مع سائر الجوارح وهم أصحاب الحديث ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وقال الإمام وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية * أما أصحاب الحديث فلهم أقوال ثلاثة * الأول أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ثم كل معصية بعده كفر على حدة ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار لأن أصل الطاعات الإيمان وأصل المعاصي الكفر والفرع لا يحصل دون ما هو أصله وهو قول عبد الله بن سعيد القول الثاني أن الإيمان اسم للطاعات كلها فرائضها ونوافلها وهي بجملتها إيمان واحد وأن من ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه ومن ترك النوافل لا ينقص إيمانه * القول الثالث أن الإيمان اسم للفرائض دون النوافل وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدى بالباء فالمراد به في الشرع التصديق يقال آمن بالله أي صدق فإن الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية لا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى أو صام بل يقال آمن لله كما يقال صلى لله فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريق اللغة وأما إذا ذكر مطلقا غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول نقلا ثانيا من معنى التصديق إلى معنى آخر * ثم اختلفوا فيه على وجوه * أحدها أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة أو من باب الاعتقادات أو الأقوال والأفعال وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار * والثاني أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل وهو قول أبي علي الجبائي وأبي هاشم * والثالث أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد وهو قول النظام ومن أصحابه من قال شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب كل الكبائر * وأما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول معرفة الله تعالى ومعرفة كل ما نصب الله عليه دليلا عقليا أو نقليا ويتناول طاعة الله تعالى في جميع ما أمر به ونهى صغيرا كان أو كبيرا قالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ويقرب من مذهب المعتزلة مذهب الخوارج ويقرب من مذهبهما ما ذهب إليه السلف وأهل الأثر أن الإيمان عبارة عن مجموع ثلاثة أشياء التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان إلا أن بين هذه المذاهب فرقا وهو أن من ترك شيئا من الطاعات سواء أكان من الأفعال أو الأقوال خرج من الإيمان عند
(١٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 ... » »»