ثم سهر ليلته كلها وكان له قلب حي ذكي وعقل لا يستطيع معه نسيانا ولا غفلة، فعلاه الحزن والاهتمام فانصرف نفسه عن الدنيا وشهواتها وكان في ذلك يداري أباه ويتلطف عنده وهو مع ذلك قد أصغى بسمعه إلى كل متكلم بكلمة طمع أن يسمع شيئا يدله على غير ما هو فيه، وخلا بحاضنه الذي كان أفضى إليه بسره، فقال له: هل تعرف من الناس أحدا شأنه غير شأننا، قال: نعم قد كان قوم يقال لهم:
النساك، رفضوا الدنيا وطلبوا الآخرة، ولهم كلام، وعلم لا يدرى ما هو، غير أن الناس عادوهم وأبغضوهم وحرقوهم ونفاهم الملك عن هذه الأرض، فلا يعلم اليوم ببلادنا منهم أحد فإنهم قد غيبوا أشخاصهم ينتظرون الفرج، وهذه سنة في أولياء الله قديمة يتعاطونها في دول الباطل، فاغتص لذلك الخبر فؤاده، وطال به اهتمامه، وصار كالرجل الملتمس ضالته التي لا بدله منها، وذاع خبره في آفاق الأرض وشهر بتفكره وجماله وكماله وفهمه وعقله وزهادته في الدنيا وهوانها عليه.
فبلغ ذلك رجلا من النساك يقال له: بلوهر، بأرض يقال لها: سرانديب، وكان رجلا ناسكا حكيما فركب البحر حتى أتى أرض سولابط، ثم عمد إلى باب ابن الملك فلزمه وطرح عنه زي النساك ولبس زي التجار وتردد إلى باب ابن الملك حتى عرف الأهل والأحباء والداخلين إليه، فلما استبان له لطف الحاضن بابن الملك، وحسن منزلته منه أطاف به بلوهر حتى أصاب منه خلوة، فقال له: إني رجل من تجار سرانديب، قدمت منذ أيام، ومعي سلعة عظيمة نفيسة الثمن، عظيمة القدر، فأردت الثقة لنفسي فعليك وقع اختياري، وسلعتي خير من الكبريت الأحمر، وهي تبصر العميان، وتسمع الصم، وتداوي من الأسقام، وتقوي من الضعف، وتعصم من الجنون، وتنصر على العدو، ولم أر بهذا أحدا هو أحق بها من هذا الفتى فإن رأيت أن تذكر له ذلك ذكرته فإن كان له فيها حاجة أدخلتني عليه، فإنه لم يخف عنه فضل سلعتي لو قد نظر إليها، قال الحاضن: للحكيم إنك لتقول شيئا ما سمعنا به من أحد قبلك ولا أرى بك بأسا وما مثلي يذكر مالا يدري به ما هو، فأعرض علي سلعتك أنظر إليها فإن رأيت شيئا ينبغي لي أن أذكره ذكرته، قال له