الكلام مخرج الموعظة والنصيحة والحث على الطاعات، فكأنه أراد من أحبنا فليعد لفقره يوم القيامة ما يجبره من الثواب والقرب إلى الله تعالى والزلف عنده.
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: وجه الحديث خلاف ما قاله أبو عبيدة ولم يرد إلا الفقر في الدنيا، ومعنى الخبر أن من أحبنا فليصبر على التقلل من الدنيا والتقنع منها وليأخذ نفسه بالكف عن أحوال الدنيا وأعراضها، وشبه الصبر على الفقر بالتجفاف والجلباب، لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب والتجفاف البدن.
قال: ويشهد بصحة هذا التأويل ما روي عنه عليه السلام من أنه رأى قوما على بابه فقال: (يا قنبر من هؤلاء؟ فقال له قنبر: هؤلاء شيعتك، فقال: مالي لا أرى فيهم سيماء الشيعة؟ قال: وما سيماء الشيعة؟ قال: خمص البطون من الطوى، يبس الشفاه من الظما، عمش العيون (7) من البكاء) هذا كله قول ابن قتيبة، فالوجهان جميعا في الخبر حسنان وإن كان الوجه الذي ذكره ابن قتيبة أحسن وأنصع (2).
ويمكن أن يكون في الخبر وجه ثالث يشهد بصحته اللغة وهو أن أحد وجوه معنى لفظة الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو قريب منه، ثم يلوى عليه حبل يذلل به الصعب، يقال: فقره يفقره فقرا: إذا فعل به ذلك، وبعير مفقور، وبه فقرة، وكل شئ حززته وأثرت فيه فقد فقرته تفقيرا، ومنه سميت الفاقرة، وقيل:
سيف مفقر، فيحتمل القول على أنه يكون عليه السلام أراد من أحبنا فليزم نفسه وليخطمها وليقدها إلى الطاعات وليصرفها عما تميل طباعها إليه من الشهوات وليذللها على الصبر على ما كره منها ومشقة ما أريد منها كما يفعل ذلك بالبعير الصعب، وهذا وجه ثالث في الخبر لم يذكر (3).