العظام من يفسد ويسفك لا تفعله إلا لوجه دقيق وسر غامض، فما أبلغ حكمتك!.
ومنها: أن إبداء الإشكال طلبا " للجواب غير محظور، فكأنه قيل: إلهنا أنت الحكيم الذي لا تفعل السفه البتة، وتمكين السفيه من السفه قبيح من الحكيم، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟ أو أن الخيرات في هذا العالم غالبة على شرورها، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فالملائكة نظروا إلى الشرور، فأجابهم الله تعالى بقوله:
" إني أعلم مالا تعلمون " أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجل الشرور القليلة.
ومنها: أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى، فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه.
ومنها: أن قولهم: " أتجعل " مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحا "، ونحو قول موسى: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " أي لا تهلك، فقال تعالى:
" إني أعلم ما لا تعلمون " من صلاحكم وصلاح هؤلاء، فبين أنه اختار لهم السماء ولهؤلاء الأرض ليرضى كل فريق بما اختار الله له.
ومنها: أن هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير: (ألستم خير من ركب المطايا) أي أنتم كذلك وإلا لم يكن مدحا ": فكأنهم قالوا: إنك تفعل ذلك و نحن مع هذا نسبح بحمدك، لأنا نعلم في الجملة أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة، فقال تعالى: " إني أعلم ما لا تعلمون " فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل، وأنا أعلم ظاهرهم وما في باطنهم من الأسرار الخفية التي يقتضي اتخاذهم.
والجواب عن الغيبة أن من أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال، فلذلك ذكروا الفساد والسفك، مع أن المراد أن مثل تلك الإفعال يصدر عن بعضهم، ومثل هذا لا يعد غيبة، ولو سلم فلا نسلم ذلك في حق من لم يوجد بعد، ولو سلم فيكون غيبة للفساق وهي مجوزة، ولو سلم فلا نسلم أن ذكر مثل ذلك لعلام الغيوب يكون محرما "، لا سيما من الملائكة الذين جماعة منهم مأمورون بتفتيش أحوال الخلائق وإثباتها في الصحف وعرضها على الباري جل اسمه.